مقدمة:
كان
مصطلح المحاكاة أو الميميزيس La Mimèsis-ولا يزال- يحتل مكانة محورية في الدرسين
النقدي والفلسفي، ولكن أبعاده الفلسفية والأنطولوجية ظلت ملتبسة ببعده الأدبي أو
الجمالي عامة بحيث تنتج لنا في المحصلة محاكاتان لا محاكاة واحدة: المحاكاة كما
تصورها الفلاسفة الإغريق ولا سيما أفلاطون وأرسطو، والمحاكاة كما فهمها شراح أرسطو
من الفلاسفة العرب اقتفاء للمفهوم الأرسطي في كتاب الشعر، وكما فهمها النقاد
والبلاغيون العرب -اقتفاء للفلاسفة المسلمين- وعلى رأس هؤلاء النقاد حازم
القرطاجني.
وقد اقترن مصطلح المحاكاة بمصطلح آخر عند
الفلاسفة المسلمين وهو مصطلح التخييل، وهذا المصطلح يكاد ينفرد به الفلاسفة المسلمون
إذ لا نجد له أثرا فيما كتبه أفلاطون وأرسطو عن الشعرين التراجيدي والملحمي.
إن
طبيعة المصطلحين والتباس البعدين الفلسفي والجمالي فيهما وكذلك تداخلهما- خاصة عند
الفلاسفة والنقاد المسلمين- مثار لإشكالات لا زالت راهنة، تستبطن أسئلة ذات أبعاد
مفهومية وإجرائية أهمها:
هل كل من المحاكاة والتخييل مصطلح فلسفي أم
جمالي نقدي؟ وهل العلاقة بينهما علاقة ترادف أم علاقة تكامل؟ وإذا صح الزعم بأن
مصطلح التخييل مرتبط بالدرس النقدي للشعر فما هي قيمته الإجرائية؟
1-
المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو:
المحاكاة في التصور الأفلاطوني
تعني التقليد L’imitation أي تقليد الشاعر التراجيدي للواقع في أعماله كما يقلد الرسام
الطبيعة، وهي ذات بعدين: الأول أخلاقي وتربوي، والثاني أنطولوجي. يظهر البعد الأول
في الكتابين الثاني والثالث من الجمهورية حيث انتقد أفلاطون –على لسان سقراط- تراجيديات
هيزيود وهوميروس لتصويرهما الآلهة والأبطال بطريقة مهينة وباطلة، إذ تكيد لبعضها
وتقتتل فيما بينها وهذا حسبه لا يلائم تربية حراس المستقبل إذا أردنا لهم أن
ينظروا إلى مقاتلة بعضهم بعضا على أنها عار ينبغي تجنبه، كما لا يلائم حراس
المستقبل أيضا تصوير العالم الآخر بتلك الصورة الكالحة الكئيبة الشائعة مادامت لا
تنطوي على نصيب من الحقيقة،
ولا تفيد ناسًا مهمتهم ممارسة
الحروب. ([1])
أما البعد الأنطولوجي للمحاكاة فيظهر في الكتاب العاشر من الجمهورية فقد حاول أفلاطون- على لسان سقراط- أن يثبت أنّ
الشعر، مثل الرسم، محاكاة لمحاكاة أي أنه محاكاة من الدرجة الثانية، فالسرير مثلا
يخلقه الله بصفته الصانع الحقيقي لسرير حقيقي، والنجار يقلد صنعه أي أنه يحاكي خلق
الله، ويأتي الرسام أخيرا ليحاكي صنع النجار. فمحاكاته من الدرجة الثانية أي أنها
محاكاة لمحاكاة وبالتالي فهو يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة إلى الطبيعة الحقة للأشياء.
والشعراء كالرسامين: مقلدون فحسب.([2])
وربما جنح بعض الباحثين إلى مزيد من التفريع،
فأسندوا لمصطلح المحاكاة في المحاورات الأفلاطونية أكثر من دلالة ، مثل ماريا
فيليلا بوتي Maria
Villela-Petit التي ترى أن مفهوم المحاكاة عند أفلاطون
يتحدد عبر خمسة استعمالات مختلفة أ- استعمال شامل ، بأوسع معنى ممكن، في محاورة
ثيماوس حيث أن الخالق نفسه Le Démiurge يخلق بواسطة المحاكاة نظام العالم
(الكوسموس) ب- أما في محاورة كراتيلوس فإن سقراط
يؤكد أن الأسماء تمثل جواهر الأشياء(ولكنها بالطبع ليست صورها) ج- وتستعمل
المحاكاة بالمعنى الأخلاقي التربوي في محاورة الجمهورية حيث يقال فيها أن الحراس
ينبغي أن يقلدوا القيم التي ينبغي عليهم تعلمها منذ الطفولة . د- ويستعمل المصطلح،
بشكل أضيق يخص مجال الشعر حين يتم التفريق في الفصل الثالث من الجمهورية بين السرد
الخالص Diègèsis والمحاكاة نفسها هـ -
وهناك أخيرا استعمال يتعلق بالشعر التراجيدي والرسم.([3])
والواقع
أنه يمكن رد الاستعمالين الأول والخامس للمحاكاة إلى الحقل الأنطولوجي بسهولة فهي
في الاستعمال الأول -كما اقترحته الباحثة – إنما تتعلق بصلة المحاكاة بالحقيقة أو
عالم المثل أي ما أوجده الخالق نفسه لأول مرة، أما في الاستعمال الخامس فهي واضحة
الدلالة على البعد الأنطولوجي للمحاكاة حيث تعني صلة الفن بالحقيقة الغيبية.
أما الفرق بين السرد الخالص والمحاكاة فهو عند
أفلاطون ليس استعمالا محددا لها، بل هو تعريف لطبيعتها في التراجيديا باعتبارها
الأقوال المسندة للشخصيات، بينما يُعدُّ ما ورد في محاورة كراتيلوس تحديدًا لماهية
اللغة نفسها ولا يمس الشعر التراجيدي.
أما أرسطو فلا
يعرف المحاكاة، بل يتحدث مباشرة عن أنواعها
فالشعر –في نظره- كسائر الفنون يقوم على المحاكاة. وكل أنواع المحاكاة
تختلف فيما بينها إما في الوسائل أو الموضوعات أو الأسلوب. فمن حيث الوسائل ثمة
فنون تحاكي بالألوان والرسوم وأخرى تحاكي بالصوت ،
وغيرها – أي الفنون الشعرية- تحاكي باللغة والايقاع والانسجام مجتمعة معا أو
تفاريق. ([4])
أما
من حيث الموضوع فالشعراء حسب أرسطو يحاكون إما من هم أفضل منا، أو أسوأ، أو مساوون
لنا. ([5])
ومن حيث الأسلوب تختلف طبيعة
المحاكاة عند الشعراء، فإما أن" يستخدم (الشاعر) السرد في جزء، وفي جزء آخر
يتقمص شخصية أخرى غير شخصيته، ثم يروي القول على لسانها كما كان يفعل هوميروس،
وإما يتكلم بلسانه هو، دون إحداث مثل هذا التغيير، وإما يعرض الشخصيات وهي تؤدي كل
أفعالها أداء دراميا". ([6])
وإذا
كان أفلاطون قد جرد المحاكاة في التراجيديا من كل فضيلة، فإن أرسطو قد أسند إليها
وظيفة محورية هي التطهير Katharsis فالمحاكاة
"تثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه الانفعالات". ([7])
والمحاكاة
الأرسطية بهذا التعريف الوظيفي مرتبطة بالبعدين
الأخلاقي والنفسي من خلال مفهوم التطهير وبذلك يغدو كتاب "الشعر"
لأرسطو الذي احتار الدارسون في تصنيفه استكمالا لمشروعه في كتاب
"الأخلاق إلى نيقوماخوس" حسب
الباحث بييرلويجي دونيني Pierluigi Donini فقد وعد
أرسطو في كتابه المذكور بالتناول المسهب لمفهوم التطهير في كتاب الشعر، بعد أن
ألمع إليه إلماعا وهو يتحدث عن الموسيقى ودورها في تربية الشباب. فالمحاكاة مصطلح
فلسفي ينتمي إلى مجال الفلسفة السياسية -التربوية لأرسطو. وهي تهدف إلى تحقيق
الحكمة العملية أو الفرونيسيسLA PHRONÈSIS ([8])
وفي السياق نفسه تقترح الباحثة آدا ناشك Ada Neschke فهم نظرية
الشعر لأرسطو انطلاقا من نظريته حول الانتاج البشري، أي من التقنية، لا انطلاقا من
المحاكاة فهو قد عد الشعر نوعا من المهارات، أي من التقنية ، والأعمال الفنية
لاتهم الفيلسوف إلا من جهة أثرها النفسي على المتلقي. ([9])
فبوصف الشاعر منتجا أو صانعا يستبدل أرسطو التفسير السيئ لعمله بأنه صانع
أبيات بصيغة أخرى هي: صانع الخرافات. وعليه فالفن الشعري هو أيضا تقنية بما أن
الشاعر صانع خرافات. ([10])
وباعتباره الشعر تقنية
فأرسطو" يمنح الشاعر معرفة معينة، وكذلك ملكة عرْض هذه المعرفة بواسطة
اللوغوس".([11])
فالشاعر التراجيدي يستطيع بالتأكيد أن يبرر عمله وغايته من هذا العمل مثل أي صانع
أو حرفي يملك أن يعرض على الناس أساليب وأسرار صنعته وأهدافها، كما يملك أن يبررها
ويدافع عنها.
ونظرية أرسطو عن الشعر بوصفه
تقنية هي -حسب الباحثة- نظرية ثورية خالف بها أرسطو سقراط وأفلاطون اللذين عدا
الشعر ضربا من الإلهام الإلهي والجنون حيث لا يعلم الشعراء ما يقولون مهما كان
صوابا أو خطأ، فأرسطو عكس ما ذهبا إليه استبعد فكرة الخلق اللاواعي عند الشعراء
واقترح بدلا منها النظرية التي يعد حسبها الإنتاج الشاعري عقلانيا وقابلا للتحكم
فيه تماما مثل إنتاج المنازل أو الأحذية،
وهو بوصفه إنتاجا إنما يمنح شكلا لمادة عمله وغاية يسعى إليها مثل صناعة
الأحذية لكن غايته هو نفسية تتمثل في إثارة انفعال المشاهدين من خلال سلسلة من
الأحداث التي تتجسد ماديا عبر أفعال وخطابات الممثلين وكذلك إنشاد ورقص الجوقة. ([12])
لكن عمل الشاعر لا يتمثل " في محاكاة أو
تمثيل الفعل اليومي، بل هو إبراز الاحتمالات القصوى".([13]) فالشاعر لا يعيد إنتاج الواقع بل ينتقي عناصره
التراجيدية التي من شأنها تحريك انفعالات المشاهدين، ويصل بالفعل التراجيدي إلى
مداه ليس بالحدث العادي بل بالحدث الخارق، غير المتوقع أو الميثوس Muthos .فالمحاكاة
التراجيدية في المفهوم الأرسطي إذن" ليست هي تمثيلا أي إعادة إنتاج، ولكنها
تقديمٌ أو ترهينٌ، بواسطة الإخراج المسرحي، للأحداث الممكنة في أية حياة
إنسانية".([14])وهنا
قد تقترب حرفة الشاعر التراجيدي من حرفة الطبيب فهو يمارس نوعا من التطهير-
بالمفهوم الفزيولوجي العصبي- لانفعالات المشاهدين.
و بما أن أرسطو لم يعرف مطلقا
المحاكاة، بينما كان أستاذه أفلاطون هو من عرفها بوصفها تبتعد عن عالم المثل
بدرجتين فإنها تظل- في أذهاننا- محتفظة بهذا البعد الأنطولوجي الخالص، وهنا
نتساءل:هل احتفظ أرسطو في ذهنه بهذا البعد حين أقصى الشعر من مجال المعرفة وقصر
مهمته على التطهير ؟
من الواضح أن أرسطو لم يبحث علاقة الشعر بالحقيقة، لكنه احتفظ بمشروع
أستاذه الأساسي وهو تربية سكان المدينة بواسطة الشعر التراجيدي الذي كان يتم أداؤه
تمثيلا على مسارح أثينا، فالمسرح التراجيدي اليوناني" كان مع المجلس النيابي
والمحكمة أحد أعمدة السلوك السياسي للجماعة".([15])
وتلاحظ
أدا ناشك أن الشعر – من بين المهارات- هو الذي يقترب أكثر من الفلسفة ( حسب أرسطو
طبعا) وهذا ما يبدو أنه يمنحه مكانة رفيعة، لكنها كما تلاحظ الكاتبة مجرد مكانة
ظاهرية، فبما أن الشعر- حسب أرسطو- ليس من مهامه نقل المعرفة بل إثارة الانفعالات
واللذة، فإنه – كما كان رأي أفلاطون أيضا- ليس أبدا منافسا للفلسفة. ([16])
وخلاصة ما سبق أن الشعر عند أفلاطون وأرسطو هو جزء من مشروع فلسفي عام
قوامه النشأة السليمة للمدينة وسكانها، والمحاكاة هي أداة هذا الشعر ولذلك انصب
تنظيرهما عليها، فمصطلح المحاكاة إذن ذو ثلاثة أبعاد: فلسفي أنطولوجي باعتبار
علاقتها بالحقيقة ، وسياسي تربوي باعتبار مهمتها التطهيرية، وفني جمالي – خاصة عند
أرسطو- باعتبار علاقتها بالشعر التراجيدي أو الكوميدي أي المسرح عموما، والملحمة.
وهنا ينبغي أن نلاحظ أن أرسطو قد استبعد من كتابه الشعر الغنائي ليقصر المحاكاة
على المسرح والملحمة فقط، وهذا ما لاحظه الباحثون مثل هوبير ليزي Hubert
Laizé الذي خلُص إلى أن نواة كتاب
أرسطو هي دراسة التراجيديا مشيرًا إلى حضور التاريخ حول هذه النواة باعتبارهما- أي
التراجيديا والتاريخ- شريكين في الشخصيات والطباع، وكذلك لاحظ حضور الملحمة
باعتبارها أصل أو أم التراجيديا، كما لاحظ أيضا غياب الشعر الغنائي. ([17])وهذا
الغياب يعود – حسب هوبير ليزي([18])وغيره
من الباحثين مثل ماريا فيليلا بوتي([19])-
إلى أن الشعر الغنائي ذاتي وخاص بانفعالات النفس وليس فنا محاكيا،
والأمر نفسه بالنسبة لأفلاطون فكل من الفيلسوفين أهمل
الشعر الغنائي أو الإنشادي.
ولكن ثمة "غائبا"
آخر- بالإضافة إلى الشعر الغنائي- عن كتاب أرسطو قلما أشار إليه الدارسون وهو
الخيال، فقد لفت بوتشر Butcher مترجم كتاب
أرسطو إلى الانجليزية – الانتباه إلى أن الفيلسوف "لم يتعرض في "فن
الشعر" للحديث عن هذه الملكة ولم يشر إليها"([20])،
بينما حاول موراي بوندي Murray Bundy افتراض أن
لأرسطو أفكارا محددة تتصل بالوظائف التي يمكن أن تقوم بها ملكة التخيل في الشعر..
وإذا كان أرسطو قد تجنب الإشارة إلى ملكة التخيل في كتابه فيمكن التعرف عليها فيما
كتبه عن النفس والأخلاق إذ يقدمان أساسا صالحا لتفهم النظرية الأرسطية في الشعر،
لكن ما يذهب إليه بوندي مجرد افتراض محض، وبذلك تظل الفجوة الملحوظة بين نظرية
المحاكاة عند أرسطو ومفهومه النفسي عن التخيل قائمة كما يلاحظ ذلك جابر عصفور.( [21])
ويغيب المصطلح أيضا في تنظير
أفلاطون للشعر ولا سيما في محاورة "الجمهورية"، بينما يحضر بشكل خافت
وغير مباشر في مختلف محاوراته ك"كراتيلوس" و"ثيماوس" وغيرها
دون أن يمس الشعر([22])،
فلا نجد لديه" عرضا مفصلا مخصصا للتخيل".([23])
والواقع أن مصطلح الخيال أو
التخيل لم يظهر في الدرس النقدي الغربي إلا متأخرا، وربما كان أقدم النصوص التي
تعرضت إلى مفهوم الخيال في علاقته بالمحاكاة هو ما كتبه فلافيوس فيلوستراتوس Flavius Philostratus في القرن
الثالث الميلادي، حيث أكد أن الخيال أعْلمُ من المحاكاة ومفضَّلٌ عليها لأن
المحاكاة "تمنحُ الشكل لما رأته فقط، أما الخيال فيخلق أيضا ما لم يره
أبدا".([24])
نخلص مما سبق إلى ثلاث حقائق
محورية وهي:
1- المحاكاة هي أساس نظرية الشعر عند كل من أفلاطون وأرسطو، وهي في النهاية
جزء من مشروعهما الفلسفي الكلي الذي ينحو إلى غايات سياسية وتربوية.
2- المحاكاة عند أفلاطون وأرسطو مرتبطة ارتباطا عضويا وحصريا بنوعين أدبيين
هما المسرح(التراجيديا والكوميديا)، والملحمة، ولا علاقة لها بالشعر الغنائي.
3- مصطلح الخيال (ومشتقاته كالتخيل والتخييل) غائب تماما عن تنظيرات
أفلاطون وأرسطو الشعرية.
وعلى ضوء هذه الحقائق يمكننا
فهم التلقي الملتبس لمفهوم المحاكاة لدى الفلاسفة والنقاد العرب، وكذلك الدور
المحوري لمصطلح التخييل في تمثلهم للنظرية الشعرية الأرسطية الخاصة بالتراجيديا
والملحمة رغم غياب هذا المصطلح عن تحليلات أرسطو وحتى أستاذه أفلاطون.
2- المحاكاة والتخييل عند الفلاسفة والنقاد المسلمين:
عرف العرب كتاب الشعر لأرسطو من
خلال ترجمة "متى بن يونس" وهي ترجمة حرفية سيئة عن ترجمة سريانية
كانت هي الأخرى ترجمة حرفية سيئة لأصل يوناني مجهول. ([25])وهو
أول من استخدم مصطلح المحاكاة وقرنه بالتشبيه – على غموض شديد في ترجمته- كما
يتبين مما ورد في الصفحات الأولى للكتاب، حيث يقول المترجم متى:" ...وإما
ديثرمبو الشعري، ونحو أكثر أوليطيقس، وكل ما كان داخلا في التشبيه ومحاكاة صناعة
الملاهي من الزمر والعود وغيره. وأصنافها ثلاثة: وذلك إما أن يكون يشبه بأشياء أخر
والحكاية بها....الخ".([26])
ولم يبتعد متى عن مفهوم المحاكاة في اللغة. جاء في "لسان
العرب":" يقال حكاه وحاكاه، وأكثر ما يستعمل في القبيح المحاكاة،
والمحاكاة المشابهة، تقول: فلان يحكي الشمس حسنا ويحاكيها بمعنى".([27])
وقد تبع الفلاسفة المسلمون متى بن يونس في
ترجمة الMimesis بالمحاكاة مع التباسها عندهم جميعا
بالتشبيه.
فالفارابي
في بداية تلخيصه لآراء أرسطو يقسم الألفاظ إلى دالة وغير دالة، ثم إلى مفردة
ومركبة، ثم إلى الأقاويل وغير الأقاويل "أي الكلام المفيد وغير المفيد
بالاصطلاح النحوي"، ثم الأقاويل الجازمة وغير الجازمة، ثم الصادقة والكاذبة
وهذه الأخيرة، أي الكاذبة، حسبه على نوعين
فــــــ:" منها ما يوقع فى ذهن السامعـين الشيء المعّبر عنه بدل القول، ومنها
ما يوقع فيه المحاكي للشيء وهذه هي الأقاويل الشعرية".([28])
فالأقوال الشعرية حسب الفارابي
هي القائمة على المحاكاة، وهي نفسها تختلف فيما بينها فمنها "ما هو أتم
محاكاة ومنها ما هو أنقص محاكاة".([29]) ثم
يفرق بين المُغلِّط (ولعله يقصد الفيلسوف السوفسطائي) والمحاكي(أي الشاعر)
فيقول:"ولا يظنن ظان أن المغلِّط والمحاكي قول واحد، وذلك أنهما مختلفان
بوجوه: منها أن غرض المغلط غير غرض المحاكي، إذ المغلط هو الذى يغلط السامع إلى
نقيض الشىء حتى يوهمه أن الموجود غير موجود وأن غير الموجود موجود. فأما المحاكي
للشىء فليس يوهم النقيض، لكن الشبيه".([30])
فمهمة الشاعر ليست نقل الواقع، وليست إيهام المتلقي بأن ما يسمعه منه حقيقة، بل
ثمة بينهما ما يشبه العقد الضمني بأن ما يقوله الشاعر مجرد تشبيه كاذب للواقع،
وهنا تلفتنا مفارقة في كلام الفارابي: فالشعر من جهة هو من الأقاويل الكاذبة لكنه
من جهة أخرى ليس مغلِّطا للسامع. فهو لا يتوهم أن ما يسمعه حقيقة بل يدرك أنه
ينتمي إلى المجاز أو التشبيه. وهنا نتساءل: هل الشعر الحق مرادف في ذهن الفارابي
للتشبيه؟ وهل الشعر المفتقد لهذا المسوغ يصبح قولا مغلِّطا للسامع؟
ربما لمحنا إجابة عن هذا التساؤل في القسمة
الأخرى التي يقترحها الفارابي للأقاويل الشعرية حيث يقول:"
..وقد يمكن أن تقسم الأقاويل بقسمة أخرى وهى أن نقول: القول لا يخلو من أن يكون:
إما جازماً، وإما غير جازم. والجازم: منه ما يكون قياساً، ومنه ما يكون غير قياس.
والقياس: منه ما هو بالقوة، ومنه ما هو بالفعل. وما هو بالقوة: إما أن يكون استقراءً،
وإما أن يكون تمثيلاً. والتمثيل أكثر ما يستعمل إنما يستعمل في صناعة الشعر. فقد
تبين أن القول الشعرى هو التمثيل." ([31])
هكذا يصبح القول الشعري مجرد قياس بالقوة أي منطقا شكليا غير برهاني، لا
يوصل إلى نتيجة حقيقية بل إلى التمثيل أي ضرب المثل: وهذه مجرد تسمية أخرى
للتشبيه، فالمثيل والشبيه بمعنى واحد، والاسم "مثل" هو إحدى أدوات
التشبيه. وهكذا يتأكد أن الشعر في تصور الفارابي لا يكون إلا تمثيلا أو تشبيها.
والملاحظ في عبارة الفارابي
السابقة هو اختفاء مصطلح المحاكاة، كما يختفي في تقسيمه الآتي للشعراء:
"
إن الشعراء إما أن يكونوا ذوى جبلة وطبيعة متهيئة لحكاية
الشعر وقوله ولهم تأت جيد للتشبيه والتمثيل...وإما أن يكونوا عارفين بصناعة
الشعراء حق المعرفة حتى لايند عنهم خاصة من خواصها ولا قانون من قوانينها فى أى
نوع شرعوا فيه، ويجودون التمثيلات والتشبيهات بالصناعة...وإما أن يكونوا أصحاب
تقليد لهاتين الطبقتين ولأفعالهما يحفظون عنهما أفاعيلهما ويحتذون حذويهما في
التمثيلات والتشبيهات ...". ([32])
ويتأكد هذا الغياب للمحاكاة في
خاتمة رسالة الفارابي القصيرة حيث يشير إلى تفاوت الشعراء لسببين الأول نفسي لا
يليق حسبه استقصاؤه لأنه موضوع تخصصت فيه كتب الأخلاق و"الكيفيات
النفسانية" وسبب فني جمالي يتعلق بموضوع الشعر نفسه وأداته أو على حد عبارته:
"الذي يكون من جهة الأمر نفسه".([33])
وهنا يرجع الفارابي التفاوت إلى طريقة التشبيه فيقول: "وجودة التشبيه تختلف:
فمن ذلك ما يكون من جهة الأمر نفسه بأن تكون المشابهة قريبة ملائمة، وربما كان من
جهة الحذق بالصنعة حتى يجعل المتباينين في صورة المتلائمين بزيادات في الأقاويل
مما لا يخفى على الشعراء: فمن ذلك أن يشبهوا أ ب و ب ج لأجل أنه يوجـد بين أ و ب
مشابهة قريبة ملائمة معروفة، ويوجد بين ب و ج مشابهة قريبة ملائمة معروفة، فيدرجوا
الكلام في ذلك حتى يخطروا ببال السامعين والمنشدين مشابهة ما بين أ ب ،
ب ج - وإن كانت في الأصل بعيدة." ([34])
هنا يتخلى الفارابي حتى عن مصطلح
التمثيل ويقتصر على التشبيه، فالمحاكاة تحولت إلى التشبيه، ثم التمثيل، لتستقر عند
مصطلح التشبيه بوصفه الأنسب لتحليل طبيعة الشعر العربي، ويمكن التمثيل لنمط
التحليل السابق عند الفارابي بالمعادلة الآتية:
الشعر= المحاكاة = التمثيل
= التشبيه
أما رسالة الفارابي الأخرى
"جوامع الشعر" فتختلف اختلافا جذريا عن رسالته في "قوانين صناعة
الشعراء" حيث يهيمن عليها مصطلحان هما المحاكاة والتخييل ويغيب مصطلحا
التشبيه والتمثيل.
وفي هذه الرسالة الصغيرة مقارنة ضمنية بين نمطين من فهم الشعر وتلقيه عند
العرب وعند الإغريق دون أن يسميهما صراحة.
فالعرب " إنما يرون أن القول شعر متى كان موزونا مقسوما بأجزاء ينطق
بها في أزمنة متساوية، وليس يبالون كانت مؤلفة مما يحاكي الشيء أم لا"([35])،
أما عند قدماء الإغريق فقوام الشعر وجوهره " هو أن يكون قولا مؤلفا مما يحاكي
الأمر وأن يكون مقسوما بأجزاء ينطق بها في أزمنة متساوية.." ([36]).
إذن فالمحاكاة في عرف العرب ليست
ضرورية للشعر، أما عند اليونان فهي قوامه وجوهره. وهنا يلفتنا حدس الفارابي النقدي
للفرق بين النمطين الشعريين المختلفين عند العرب والإغريق، فهو يقرر حقيقة جوهرية
هنا ترسم حدا فاصلا بين الشعر العربي الغنائي والشعر الإغريقي التراجيدي وإن كان-
لقصر رسالته الشديد- لا يمعن في مثل هذه المقارنة.
وهو يتبنى الرؤية الإغريقية في
تعريفه للشعر فيقول: "..والأقاويل الشعرية هي التي شأنها أن تؤلف من أشياء
محاكية للأمر الذي فيه القول"([37]).
لكن "الأمر الذي فيه القول" مرتع لتأويلات متباينة: فهو في
المنظور الجمالي الإغريقي مرتبط بالتراجيديا والملحمة، أما في الشعر العربي فهو
مرتبط بألوان بيانية هي التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية وغيرها. فالمحاكاة في
الشعر العربي جزئية، انتقائية، عكس المحاكاة اليونانية الشاملة التي تقدم لنا قصة
كاملة الأركان محاكية بذلك الواقع محاكاة تامة، ونواة هذه المحاكاة هي أفعال
وأقوال الشخصيات التي يتم تجسيدها على المسرح، أو على حد عبارة أرسطو في تعريفه
للتراجيديا(المأساة):"..فالمأساة إذن هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم،
بلغة مزودة بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم
بواسطة أشخاص يفعلون لا بواسطة الحكاية".([38]) أما المحاكاة في الشعر العربي فلا علاقة لها
بالقصة أو السرد فضلا عن الأداء المسرحي، بل هي أدْخلُ في الوصف، فالتشبيه مجرد من
الزمان والمكان (بمعناهما المسرحي أو الملحمي) والحبكة السردية.
وقد أردف الفارابي في رسالته هذه
مصطلح المحاكاة بمصطلح التخييل فقال:" ويلتمس بالقول المؤلف مما يحاكي الشيء
تخييل ذلك:/ إما تخييله في نفسه، وإما تخييله في شيء آخر".([39])
وقد شبه النوع الأول من التخييل بالحد في الأقاويل العلمية، وشبه الثاني بالبرهان.
([40])
وحين يتحدث الفارابي هنا عن تخييل الشيء في نفسه، وتخييله في غيره فإنه
إنما يتحدث عن الأسلوب الخطابي في الشعر مقابل الأسلوب المجازي، وهذه القسمة
الأولية قد تتفرع عنها تقسيمات عديدة. فهي أيضا تقسيم لطرفي التشبيه، فتخييل الشيء
في نفسه هو من عمل الحافظة أو الذاكرة وهو الطرف الأول من ركني التشبيه أي
المشبَّه، أما تخييل الشيء في غيره فهو مجرد تسمية معقدة للمشبه به سواء أكان
التشبيه صريحا، أم حذف المشبه وصرح بالمشبه به، أم حذف المشبه به وكُني عنه بما
يدل عليه في الاستعارة، وتخييل الشيء في غيره يقابله أيضا المعنى المقصود في
الكناية، وكذلك المعنى البعيد في التورية وأيضا القرينة في المجاز.
ونتساءل هنا: لماذا قرن الفارابي بين المحاكاة والتخييل؟
لعل أقرب تفسير لهذا هو شعوره
بقصور مصطلح المحاكاة وحده عن الإحاطة بخصائص الشعر العربي المتفلت من حدود المسرح
والملحمة، فالفارابي الذي كان يجهل- ككل الفلاسفة المسلمين القدماء- طبيعة الشعر
اليوناني المسرحية، فهم المحاكاة معزولة عن موضوعها الأصلي وحين حاول إسقاط
المفهوم الإغريقي على الشعر العربي أدرك بحدسه الفجوة الماثلة بينهما فاستنجد
بمصطلح التخييل الذي كان هو أول من صكه. ويرى جابر عصفور أن الفارابي قد وصل
" بين ما كتبه أرسطو عن الشعر وما كتبه عن النفس ومزج بينهما مما أدى به إلى
إقامة نظرية المحاكاة الأرسطية على أساس نفسي مكين، ويتجلى ذلك في أن الفارابي نظر
إلى الشعر من حيث تشكله وتأثيره في المتلقي على أنه عملية "تخيل". وبذلك
صنع الفارابي ما لم يصنعه أرسطو نفسه".([41])
إن الفارابي إذن "يقيم
الفكرة الأرسطية على أساس سيكولوجي واضح"([42])
فالتخييل مصطلح نفسي استعان به الفارابي على فهم طبيعة الشعر وتأثيره على المتلقي
إذ أن أفعال الإنسان حسبه كثيرا ما تتبع تخيلاته "وذلك أنه قد يتخيل شيئا في
أمر أمر، فيفعل في ذلك ما كان يفعله لو اتفق بالحس أو البرهان وجود ذلك الشيء في
ذلك الأمر. وإن اتفق أن يكون الذي خيل له ليس كما خيل، مثل ما يقال: الإنسان إذا
نظر إلى شيء يشبه بعض ما يعاف، فإنه يخيل إليه من ساعته في ذلك الشيء أنه مما
يعاف، فتقوم نفسه منه وتتجنبه".([43])
لكن الفارابي بعد حديثه عن
التخييل وأثره على السامع بحيث ينهض به
" نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما من طلب له، أو هرب عنه، ومن نزاع، أو
كراهة له......". ([44]) لا
يلبث أن ينتقل فجأة إلى الحديث عن المحاكاة مستأنفا حديثه السابق فيقول:"
وكما أن الإنسان إذا حاكى بما يعمله شيئا ما، ربما عمل ما يحاكي به نفسه، وربما
عمل مع ذلك شيئا يحاكي ما يحاكيه. فإنه ربما عمل تمثالا يحاكي زيدا، وعمل مع ذلك
مرآة يرى فيها تمثال زيد".([45])
إن هذا الانتقال يعني حقيقة
واضحة: وهي أن المحاكاة والتخييل عند الفارابي بمعنى واحد، ولكنه يعني أيضا أن
فيلسوفنا المسلم لم يكتف بمصطلح المحاكاة اليوناني لأنه لاحظ بحدسه أنه مصطلح مربك
لعدم إحاطته بطبيعة الشعر العربي فأردفه بمصطلح التخييل. ولعله لم يستبقِ مصطلح
المحاكاة إلا لكونه مقيدا بضرورة النقل لأن المصطلح ورد هكذا في ترجمة متى التي
يرى بعض الباحثين أن الفارابي اعتمد عليها. ([46])
ويتأكد التلقي المرتبك لمصطلح
المحاكاة عند الفارابي حين يقرر أن كثيرا من الناس "يجعلون محاكاة الشيء
بالأمر الأبعد أتم وأفضل من محاكاته بالأمر الأقرب. ويجعلون الصانع للأقاويل التي
بهذه الحال أحق بالمحاكاة، وأدخل في الصناعة وأجرى على مذهبها".([47])
فرغم تأثر الفارابي الواضح هنا بنظرية أفلاطون كما يشير إلى ذلك محقق الرسالة،([48])
إلا أنه لم يلبث أن خالفه حين تحدث عن محاكاة للمحاكاة في الشعر نفسه، ولهذا
يتساءل إحسان عباس في معرض تعليقه على هذه العبارة قائلا: "وليس واضحا كيف
تكون محاكاة المحاكاة في الشعر، إذ لا نظن أن الفارابي يعني هنا محاكاة نماذج
شعرية معتمدة. ولعله إنما يعني الرمز والإيماء والكناية".([49])
والواقع أن الجواب عن تساؤل إحسان عباس موجود في الرسالة نفسها، وهو مصطلح
التخييل الذي يمكن إحلاله محل مصطلح المحاكاة فيتضح بذلك مقصد الفارابي، فهو في
الواقع حين يتحدث عن محاكاة الشيء بالأمر الأبعد إنما يقصد تخييله بالأمر الأبعد،
لأن مصطلح المحاكاة يبدو مقحما إقحاما في تحليله وفاءً للمتن الأرسطي المنقول إلى
العربية لا أكثر.
أما ابن سينا فيعرف
الشعر بأنه :" كلام
مخيِّل مؤلف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة".([50])
ويضيف بعد أن يشير إلى أن الوزن والقافية من اختصاص الموسيقي والعروضي
والعالم بالقوافي:" وإنما ينظر المنطقي في الشعر من حيث هو مخيل، والمخيِّل هو الكلام الذي
تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر واختيار، وبالجملة
تنفعل له انفعالا نفسيا غير فكري سواء كان القول مصدقا به أو غير مصدق".([51])
وكلام ابن سينا هنا هام ومفصلي،
لأنه يخرج درس الشعر من مجال النقد الجمالي ويقحمه في الدرس الفلسفي، والمنطقي
تحديدا، كما فعل سلفه الفارابي حين اعتبره مجرد قياس شكلي لا يوصل إلى نتيجة
صحيحة، كما أن ابن سينا يشير بوضوح إلى الطبيعة السيكولوجية لمصطلح التخييل بوصفه
يحدث "انفعالا نفسيا غير فكري" وهو بهذا يقدم تعريفا واضحا للمصطلح عكس
سلفه الفارابي، وقد أشار بعض الباحثين إلى الطبيعة السيكولوجية الخالصة لمفهوم
الخيال ومشتقاته كالتخيل والتخييل عند ابن سينا،([52])
وهو يتقاطع في هذا أيضا مع الفارابي. وبناء على ذلك يمكننا أن نعد نظريته في
التخييل الشعري جزءًا من نظريته النفسية العامة، وكذلك – كما صرح هو به- جزءا من
صناعة المنطق حيث ربط بين التخييل والتصديق باعتبار الأول مستقلا عن الثاني.
وفي سياق حديثه عن التخييل وعلاقته بالتصديق يضيف قائلا: "واذا كانت
محاكاة الشيء بغيره تحرك النفس وهو كاذب، فلا عجب أن تكون صفة الشيء على ما هو
عليه تحرك النفس ، وهو صادق، بل ذلك أوجب، لكن الناس أطوع للتخييل منهم
للتصديق".([53])
إن الذي يلفتنا هنا هو هذا الإبدال الطوعي بين مصطلحي المحاكاة والتخييل-
وهو ما لاحظناه عند الفارابي- ومثل هذا الإبدال يعني بأن دلالة المصطلحين واحدة
عند ابن سينا. وبالإضافة إلى الإبدال نلاحظ المزاوجة، أي استعمال المصطلحين معا في
أكثر من موضع عنده، كما في قوله: "والشعر من جملة ما يخيل ويحاكي بأشياء
ثلاثة: باللحن الذي يتنغم به..... وبالكلام نفسه، إذا كان مخيلا محاكيا.
وبالوزن".([54])
ويتكرر الإبدال -خاصة- بين التخييل
والمحاكاة في مواضع عديدة من رسالة ابن سينا. ([55])
وهذا يؤكد ما سبق أن ذهبنا إليه من أن مصطلح المحاكاة ظل دخيلا ومربكا
للفلاسفة المسلمين ولم يستبْقوه إلا وفاء للمتن الأرسطي، فابن سينا نفسه حين ينقل
عن أرسطو نقلا مباشرا يكتفي بمصطلح المحاكاة كما في الفصل الذي خصصه لـ "
الاخبار عن كيفية ابتداء نشأة الشعر وأصنافه"([56])
فلا يستخدم في هذا الفصل إلا مصطلح المحاكاة ومشتقاته. وفي الفصل التالي يعرف
التراجيديا بالقول: ".. الطراغوذية هي محاكاة فعل كامل الفضيلة عالي المرتبة
بقول ملائم جدا لا يختص بفضيلة فضيلة جزئية تؤثر في الجزئيات لا من جهة الملكة بل
من جهة الفعل محاكاة تنفعل لها الأنفس برحمة وتقوى".([57])
ثم يعلل كون التراجيديا محاكاة للأفعال بأن "الفضائل والملكات بعيدة عن
التخيل وإنما المشهور من أمرها أفعالها".([58])
ومعنى قول ابن سينا هنا لا يخلو من مفارقة فهو يزعم أن التراجيديا محاكاة لأفعال
الفاضلين لأن هذه الأخيرة يستحيل تخيلها حيث تُعْرف بكونها أفعالا لا تصورات أو
خيالات. وهو تأويل شديد الالتواء لما ورد في قول أرسطو:
"..فالمأساة إذن هي محاكاة فعل نبيل تام، لها طول معلوم، بلغة مزودة
بألوان من التزيين تختلف وفقا لاختلاف الأجزاء، وهذه المحاكاة تتم بواسطة أشخاص
يفعلون لا بواسطة الحكاية، وتثير الرحمة والخوف فتؤدي إلى التطهير من هذه
الانفعالات".([59])
إن "الفعل" الذي لم يفهمه ابن سينا هو أداء الممثلين على المسرح
لأفعال وأقوال الشخصيات، وهنا تتجلى بوضوح صدمة العقل الفلسفي الاسلامي أمام
الظاهرة المسرحية الإغريقية المستعصية على فهمه، وهي الصدمة التي أحوجته إلى
استنفاد جهده التأويلي بحثا عن حلول- ولو كانت تلفيقية- لأزمة فهمٍ سببُها البون
الشاسع بين ما كان ينظِّر له أرسطو من شعر تراجيدي مسرحي، وملحمي سردي، والشعر
العربي الغنائي الذي كان يستدعيه الفلاسفة
المسلمون في سياق بسطهم لنظرية المحاكاة الأرسطية، وهو الشعر المباين تماما لجوهر
الدراما والملحمة.
ومن الحلول التي توصل إليها ابن
سينا لأزمة الفهم هذه –مثل سلفه الفارابي-إبدال مصطلح المحاكاة بمصطلح التخييل
الأقرب إلى طبيعة الشعر العربي، وكذلك بمصطلح التشبيه وإن كان نادر الحضور في
رسالة ابن سينا، غير أن مناسبة ظهوره لا تخلو من دلالة، فهو يستدعي المصطلح في
سياق المقارنة بين الشعرين الإغريقي والعربي، فيقول: " والشعر اليوناني إنما
كان يقصد فيه في أكثر الأمر محاكاة الأفعال والأحوال لا غير، وأما الذوات فلم
يكونوا يشتغلون بمحاكاتها أصلا كاشتغال العرب، فان العرب كانت تقول الشعر لوجهين:
أحدهما ليؤثر في النفس أمراً من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال؛ والثاني للعجب
فقط، فكانت تشبه كل شيء لتعجب بحسن التشبيه".([60])
أما ابن
رشد، فلا تكاد ترد كلمة المحاكاة في تلخيصه إلا مقترنة بمصطلح التشبيه خاصة،
كما ترد مقترنة بمصطلح التخييل، وقد يلجأ
إلى إبدال المحاكاة إما بالتشبيه وهو الغالب عنده، أو بالتخييل. ولا يخرج معنى
المحاكاة والتخييل عنده عن معنى التشبيه، وهذا ما يظهر بوضوح في الصفحات الأولى
لتلخيصه، فبعد أن عرف الأقاويل الشعرية بأنها الأقاويل المخيِّلة ([61]) تحدث
عما سماه "أصناف التشبيه والتخييل" وهي عنده ثلاثة: إثنان بسيطان: وثالث
مركب منهما، أما البسيطان فأولهما تشبيه شيء بشيء وتمثيله به مثل كأن وإخال...أما
الثاني فهو أخذ الشبيه بعينه بدل الشبيه مثل قوله تعالى" وأزواجه
أمهاتهم"( الأحزاب6)
وقول الشاعر: هو البحر من أي
النواحي أتيته..
وتدخل في هذا القسم الاستعارة والكناية.... والصنف الثالث من الأقاويل
الشعرية هو المركب من هذين. ([62])
يرد هنا ابن رشد المحاكاة إلى التخييل
والتشبيه، ثم يقصر حديثه على التشبيه وبقية الألوان البيانية التي عرفها البلاغيون
في عصره كالاستعارة والكناية، وإن كان كلامه هنا لا يخلو من غموض سببه حديثه عن
النوع الثالث من التشبيه المركب من النوع الأول أي التشبيه المؤكد الذي تظهر فيه
الأداة والنوع الثاني أي البليغ الذي تحذف منه الأداة (مع إضافة الاستعارة
والكناية إليه). فكيف يتركب نوع ثالث من التشبيه المؤكد والتشبيه البليغ مثلا؟!!
إن هذا النوع -طبعاً- مستحيل الوجود! ولعل ابن رشد كان هنا -مثل سابقيه- أسيرا
للمنطق الأرسطي في هذا التقسيم الصوري الثلاثي لأنواع التشبيه.
إن المحاكاة عند ابن رشد إذن مرادفة لكل من التخييل والتشبيه، شأنه في ذلك
شأن سلفيه الفارابي وابن سينا، فهي لا تكاد ترد إلا مقترنة بهما، كما في سياق
حديثه التالي عن دور اللحن في الشعر:
"وعمل اللحن في الشعر هو أن يعد النفس لقبول خيال الشيء الذى يقصد
تخييله. فكأن اللحن هو الذي يفيد النفس الاستعداد الذي به تقبل التشبيه والمحاكاة
للشيء المقصود تشبيهه".([63])وغالبا
ما تتم المزاوجة عنده بين المحاكاة (ومشتقاتها) والتشبيه، كما في الفصل الأول الذي
خصصه لموضوعي المحاكاة وهما الفضائل والرذائل، فقد ورد مصطلح المحاكاة مقترنا
بالتشبيه خمس مرات في صفحة واحدة. ([64])
ثم أبدل مصطلح المحاكاة في الصفحة التالية بمصطلح التشبيه منفردا، فقال
:"..وقد يوجد للتشبيه بالقول فصل ثالث: وهو التشبيه الذي يقصد به مطابقة
المشبه بالمشبه به من غير أن يقصد في ذلك تحسين أو تقبيح".([65])
وهو هنا يذكرنا بقول ابن سينا في سياق حديثه عن الموضوع نفسه أي عن موضوعي
المحاكاة وهما عنده التحسين "المتعلق طبعا بالفضائل" والتقبيح "
المتعلق ضرورة بالرذائل" :" ...ولما اعتادوا (أي اليونانيون) محاكاة
الأفعال انتقل بعضهم إلى محاكاتها للتشبيه الصرف، لا لتحسين وتقبيح".([66])
يتفق الفيلسوفان هنا في إبدال
مصطلح المحاكاة بمصطلح التشبيه، وهذا يرسخ يقيننا بأن فلاسفة الاسلام لم يفهموا من
مصطلح المحاكاة إلا أنه مرادف للتشبيه. ويتأكد مثل هذا الفهم في المنحى الإجرائي
الذي انفرد به ابن رشد عن سابقيه مسقطا نظريات أرسطو –كما فهمها- على الشعر العربي
وحتى على النص القرآني الكريم، حيث تلتبس عنده المحاكاة تماما بالتشبيه فتصبح
أنواع المحاكاة هي أنواع التشبيه. فحين يتحدث عن " المحاكاة لأشياء محسوسة
بأشياء محسوسة"([67])
مقتبسا من أرسطو يعقب قائلا:" وجل تشبيهات العرب راجعة إلى هذا الموضع. ولذلك
كانت حروف التشبيه عندهم تقتضي الشك".([68])
ثم يورد شاهدين شعريين لامرئ القيس بوصفهما نموذجا عما سماه المحاكاة البعيدة أي
تلك التي لا تقتضي شكا كقوله:(كميت كأنها هراوة منوال)، ([69])و
يتحدث بعدها عن محاكاة (أي تشبيه) الأمور المعنوية بالأمور المحسوسة ويورد على ذلك
شاهدين من شعر المتنبي وامرئ القيس،([70])
ثم يورد نموذجين لما اعتبره "غير مناسب ولا شبيه وينبغي أن يطرح" من شعر
أبي تمام مثل قوله: (لاتسقني ماء الملام) وقوله وهو أسخف من السابق حسب ابن رشد :(
كتب الموت رائبا وحليبا)، ([71])ثم
يتحدث فيلسوفنا عن التشبيه بالخسيس الوجود الذي ينبغي حسبه أن يكون مطرحا أيضا
كقول الشاعر:
والشمس مائلة ولما تفعل فكأنها
في الأفق عين الأحول([72])
ويبلغ أنواع المحاكاة عند ابن
رشد خمسة أنواع ذكرنا منها اثنين أما الثالث فهو المحاكاة التي تقع بالتذكر،
والنوع الرابع هو أن يذكر (الشاعر) أن شخصا ما شبيه بشخص من ذلك النوع
بعينه....مثل قول القائل:" جاء شبيه يوسف"، والنوع الخامس هو الذي
يستعمله السوفسطائيون من الشعراء وهو الغلو الكاذب (أي المبالغة) ويورد عليه أمثلة
عديدة كقول المتنبي:
عدوك مذموم بكل لسان ولو كان من
أعدائك القمران. ([73])
والملاحظ على تقسيم ابن رشد لأنواع المحاكاة أمران:
أولهما أنه رغم اقتباسه من أرسطو
فإن الواقع أن الفيلسوف الإغريقي لم يقسم المحاكاة إلى هذه الأنواع، ولم يربط
مطلقا بينها وبين التشبيه، وقد عرفنا تقسيم أرسطو للمحاكاة من حيث الوسائل
والمواضيع والأساليب ([74])وهو
يختلف جذريا عما أورده ابن رشد.
وثانيهما أن ابن رشد في منحاه
الإجرائي البارز – مقارنة بسابقيه- قد تحول إلى نوع من الدرس البلاغي الصرف، لأن
طبيعة كل من الشعر العربي والدرس النقدي الذي صاحبه قد فرضا عليه هذا النمط من
المقاربة البلاغية. فابن رشد يمهد لهذه المقاربة بالحديث عن المحاكاة والتخييل،
لكنه في تناوله النقدي أو البلاغي، وهو بصدد تقويم نماذجه الشعرية، يستعير
مصطلحاته من معجم البلاغة والنقد الأدبي، وهذا يعني أن مصطلحي المحاكاة والتخييل يفتقران
للنجاعة الإجرائية، لأن مصطلح المحاكاة في الحقيقة دخيل على كل من الفلسفة والنقد
العربيين باعتبار محضنه الأصلي هو المسرح اليوناني. أما مصطلح التخييل فرغم أن
الفلاسفة المسلمين انفردوا به في مقاربتهم للشعر إلا أنه يظل كما لاحظنا ذا طبيعة
سيكولوجية خالصة ولهذا تنكمش جدواه في التحليل الجمالي للشعر ويفتقر تماما إلى أية
أدوات إجرائية عكس البلاغة التقليدية التي أسعفت بمصطلحاتها ونموذجها الإجرائي
الفلاسفة والنقاد المتفلسفين على السواء.
وعلى رأس النقاد المتفلسفين حازم
القرطاجني الذي يعد بحق صاحب نظرية رائدة يرفدها وعي نقدي جبار ورؤية تجديدية
أصيلة، إلا أن منهجه يظل في الواقع تلفيقيا يقوم على الجمع بين نظرية المحاكاة
الأرسطية في صورتها العربية الشائهة ونظرية التخييل الإسلامية، وكذلك الأدوات
الإجرائية للبلاغة العربية. فعمله التنظيري لا يخرج عن نطاق الاجتهاد الفلسفي
والسيكولوجي، ويتجلى ذلك عبر تعريفه للشعر الذي جمع أطرافه من أقوال الفلاسفة
السابقين حيث يقول: "الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب الى النفس ما قصد تحبيبه
اليها، ويكرّه اليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من
حسن تخييل له، ومحاكاة مستقلة بنفسها أو مقصورة بحسن هيأة تأليف الكلام أو قوة صدقه،
أو قوة شهرته، أو بمجموع ذلك. وكل ذلك يتأكد بما يقترن به من إغراب. فإن الاستغراب
والتعجب حركة للنفس إذا اقترَنت بحركتها الخيالية قَوِي انفعالها وتأثُّرها".([75]) ف"التحبيب"
و"التكريه" و"التعجب" أي الوظائف النفسية الأساسية للشعر سبق
أن تناولها الفلاسفة السابقون، إذ أن الشعر حسب الفارابي ينهض بالسامع " نحو فعل
الشيء الذي خيل له فيه أمر ما من طلب له، أو هرب عنه، ومن نزاع، أو كراهة له......"،
([76]) والمحاكون
والمشبهون حسب ابن رشد يقصدون " أن يحثوا على بعض الأفعال الإرادية وأن يكفوا
عن عمل بعضها".([77])
وهذه الوظيفة الأخلاقية التي
باتت عند الفلاسفة من لوازم الشعر غريبة تماما عن طبيعة الشعر العربي الغنائي الذي
يغلب عليه الوصف بينما هي لصيقة بطبيعة المحاكاة اليونانية القائمة على مبدأ
التطهير النفساني وكذلك التوجيه الأخلاقي لسكان المدينة.
أما علاقة الشعر بإثارة تعجب المتلقي فسبق أن تناولها ابن سينا الذي يكثر
حازم من الرجوع إليه. ([78])
وفي تحديده لطبيعة التخييل
الشعري واستقلاله عن الصدق والكذب يستشهد حازم بقول ابن سينا الذي سبق أن
أوردناه:" والمخيل هو الكلام الذي تذعن له النفس ..." وكذلك بقول الفارابي :" الغرض المقصود
بالأقاويل المخيلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خُيِّل له فيه أمر
ما...."، ([79])مقيما
بذلك نظريته حول التخييل على أساس فلسفي وسيكولوجي صرف.
أما المحاكاة فتلتبس عنده
بالتخييل والتشبيه، فحين يتحدث عن أقسامها يقول:"وتنقسم التخاييل والمحاكيات
بحسب ما يقصد بها إلى: محاكاة تحسين، ومحاكاة تقبيح، ومحاكاة مطابقة...". ([80])وهو
تقسيم استعاره من ابن سينا كما يشير هو نفسه إلى ذلك.
وحين يقسم المحاكاة إلى نوعين: مترددة (أي مبتذلة أو مألوفة) وطارئة مبتدعة
يقول أن القسم الأول "هو التشبيه المتداول بين الناس. والقسم الثاني هو
التشبيه الذي يقال فيه أنه مخترع".([81])
وهكذا نلاحظ الالتباس التام عنده بين المصطلحات الثلاثة.
وهذا يدعم الفرض الذي تقوم عليه
هذه الدراسة وهو أن كلا من مصطلحي المحاكاة والتخييل دخيل على الدرس النقدي
العربي، ولذلك مثَّل اللجوء المتكرر إلى مصطلح التشبيه- والمصطلحات البلاغية
الأخرى- حلا توفيقيا يلائم بين الدرس الفلسفي النظري والواقع الشعري العربي،
فالفلاسفة المسلمون وحازم القرطاجني قد أدركوا بحدسهم مدى الانفصام بين الممهدات
النظرية المستعارة من الشعرية الأرسطية التي عجزوا عن استيعابها لارتباطها الوثيق
بفني المسرح والملحمة وبين الشعر الغنائي العربي الذي يتفلت تماما، بطبيعته، من
القواعد الأرسطية لأنه يقوم على التشبيهات الجزئية لا المحاكاة الكلية للواقع وما
تستتبعه من أحداث وشخصيات وحوار وأداء مسرحي منظور.
وإن كان مصطلح التخييل أصيلا غير
منقول في الفلسفة الإسلامية، فإنه ظل ملتبسا بمصطلح المحاكاة، كما أنه ظل مقترنا
بأبعاد سيكولوجية خالصة تقصيه من دائرة الدرس الجمالي، ولذلك عجز النقاد الذين
استلهموا جهود الفلاسفة المسلمين عن الانتقال السلس من نظرية التخييل إلى نمط من
الإجراء "التخييلي" المفترض في تناولهم للشعر العربي. فنقاد الأدب الذين
" تابعوا المدخل الأرسطي إلى تحليل الشعر
لم يوجهوا أقوالهم البتة إلى التطبيق العملي للمبادئ على صناعة الشعر
العربي في تجسيداتها الملموسة".([82])
وحازم القرطاجني، بوصفه أبرز
هؤلاء النقاد، لم يستفد حسب "صفوت الخطيب" من التراث الفلسفي اليوناني
ولا من شروح الفلاسفة المسلمين إلا مسألة التنظير في المقام الأول. ([83])
والواقع أن مصطلحي المحاكاة
والتخييل الحاضرين في المهاد النظري ل"منهاج البلغاء" يغيبان تماما في
مواضعه الإجرائية، وتحضر بدلا منهما المصطلحات النقدية والبلاغية كالقلب، والتماثل
أو التشابه، والمطابقة، والمقابلة، والتقسيم، والتفسير، والتفريع. ([84])
خاتمة:
رصدنا في بحثنا ارتباط المحاكاة في أفقها الإغريقي
ومحضنها الأصلي -خاصة عند أفلاطون وأرسطو- بنوعين أدبيين لم يعرفهما العرب هما الشعر
التراجيدي المسرحي وفن الملحمة السردي، فالمحاكاة كانت تعني إعادة تمثيل الواقع أحداثا
وشخصيات وحوارا على الركح المسرحي، وكانت تهدف إلى غايات تربوية وسياسية، بالإضافة
إلى وظيفة التطهير النفسية التي أسندها إليها أرسطو.
وبهذا يغدو مفهوم المحاكاة بعيدا عن التشبيه البلاغي
الذي فهمه الفلاسفة والنقاد العرب منها، فالتشبيه ظاهرة وصفية جزئية لا ترتبط بسرد
أو زمن أو حوار، ولا يمكن القول أن التشبيه هو أساس الشعر الغنائي العربي كما كانت
المحاكاة بالنسبة للتراجيديا أو الملحمة الإغريقيتين. والذي يؤكد مباينة مفهوم المحاكاة
لمفهوم التشبيه هو غياب الشعر الغنائي عن النظريات النقدية الإغريقية، فلم يشر أفلاطون
وأرسطو أبدا إلى الشعر الغنائي في تحليلاتهما، وهذا يعني أنها لا تناسب أبدا طبيعة
الشعر الغنائي العربي، مما يفسر تلقي الفلاسفة والنقاد العرب المرتبك لمصطلح المحاكاة
الوارد في ترجمة متى الشائهة، حيث فهموا منه التشبيه المعروف في البلاغة العربية، وبنوا
على ذلك نظرية مغايرة تماما للأصل الأرسطي وإن كانت تدعي شرحه أو تلخيصه.
ويتأكد التلقي المرتبك لمفهوم المحاكاة عند كل
من الفارابي وابن سينا وابن رشد من خلاله إبداله أو المزاوجة بينه وبين مصطلحين محوريين
في تحليلاتهم هما: التخييل والتشبيه، بالإضافة إلى رفده وتعضيده بمصطلحات أخرى
ثانوية كالتعجيب.
ورغم أصالة مصطلح التخييل بوصفه ثمرة لاجتهاد الفلاسفة
المسلمين إلا أنه يظل لصيقا بالنظرية السيكولوجية، مما يفقده الفاعلية الإجرائية في
تناول الشعر العربي، وهذا ما يفسر غيابه التام عن الإجراء النقدي الذي صاحب تنظيرات
الفلاسفة- ولا سيما ابن رشد- وكذلك النقاد، وتحديدا حازم القرطاجني، فهذا الأخير، رغم
جسامة جهده النقدي وجِدَّته على الصعيد النظري، لم يتمكن من استثمار نظرية التخييل
في التحليل الجمالي لنصوص الشعر العربي لاستحالة ذلك، واضطر إلى الاستنجاد بالإجراء
البلاغي المحض.
والخلاصة المركزة لهذا البحث تتجلى في نتيحتين
أساسيتين:
1- المحاكاة
مصطلح دخيل على النقد العربي لارتباطه من الناحية النقدية والإجرائية عند أفلاطون وأرسطو
بالشعرين التراجيدي (المسرحي) والملحمي(السردي) حصرا، وقد استبعد الفيلسوفان الشعر
الغنائي تماما من تحليلاتهما. ولهذا فمصطلح التشبيه الذي أردفه الفلاسفة والنقاد المسلمون
بالمحاكاة لا علاقة له به في الحقيقة، بل هو لصيق بطبيعة الشعر العربي الغنائي
الذي يغلب عليه الوصف لا السرد أو الحوار.
2 - كما أن
مصطلح التخييل دخيل هو أيضا على النقد العربي القديم باعتباره مصطلحا سيكولوجيا لم
يسعف الناقد العربي بأدوات واضحة لتشريح النص، مما أحوجه للنموذج الإجرائي
البلاغي، وذلك ما يتجلى بوضوح عند حازم القرطاجني.
المصادر والمراجع:
أولا العربية والمترجمة
1-ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د.ت، مجلد2/ ج12
2-إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ط4،
1404ه- 1983 م
3-أرسطوطاليس، فن الشعر، تر عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية،
ط1، 1953
4-أرسطو ، فن الشعر، تر إبراهيم حمادة، ، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1،
1983 5-أفلاطون، الجمهورية،
ترجمة ودراسة فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، 2004
6- جابر
عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، المركز الثقافي
العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط3، 1992.
7-حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب ابن
الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1981
8-صفوت عبد الله الخطيب، (1987) الخيال مصطلحا نقديا بين حازم القرطاجني
والفلاسفة، مجلة فصول، القاهرة، المجلد7، العددان 3-4، أبريل-سبتمبر 1987
9-عباس أرحيلة(2003)،
حازم القرطاجني ومسألة التأثير الأرسطي في النقد العربي القديم، مجلة عالم الفكر،
الكويت، ع 2، م 2-3 أكتوبر ديسمبر 2003
10-عصام قصبجي، أصول النقد العربي القديم، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية،
جامعة حلب، د.ط، 1416ه 1996
11-الفارابي، جوامع الشعر،(مع تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر لابن رشد)
تحقيق محمد سليم سالم، لجنة إحياء التراث الاسلامي، القاهرة، د.ط، 1391-1971
12-فينسنتي كانتارينو، علم الشعر العربي في العصر الذهبي، تر محمد مهدي
الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ط،2004
13-محمد عثمان نجاتي، الإدراك الحسي عند ابن سينا، ديوان المطبوعات الجامعية،
المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط 3، 1995
ثانيا: الفرنسية
14-Ada
Neschke, «POIÉSIS» et «MIMÉSIS» dans La"POÉTIQUE" d'Aristote.
in:Poetica, Vol. 29, No. 3/4 (1997)
15-Armisen-Marchetti Mireille, La notion d'imagination chez les
anciens I : Les philosophes. In: Pallas, 26/1979
16-Daniele Guastini, Représentation ou répétition ? À propos de
la traduction du mot mimèsis dans la Poétique, Littérature,2016/2 N° 182
17-Hubert Laizé, Aristote-Poétique, Presses Universitaires
de France,(Puf), 1re édition 1990
18-Maria Villela-Petit: Art et vérité. La réhabilitation
herméneutique de La Mimèsis et ses limites,Les Études philosophiques, No.
2, Avril-Juin 1998,p222
19-Pierluigi Donini, "Mimésis" tragique et
apprentissage de la "Phronèsis" in:Les Études philosophiques, No.
4, (Octobre 2003)
20-Sylvie Humbert-Mougin , L’Antiquité: Naissance et affirmation
d’un concept de théâtre, in:Didier Souiller et autres, Etudes thétrales,
Quadrige/Puf , Paris,1ere édition, 2005, p7
الهوامش:
[1] تنظر: جمهورية أفلاطون،
ترجمة ودراسة فؤاد زكريا، دار الوفاء، الاسكندرية، 2004، ص ص237-246.
[2] المرجع نفسه، ص ص 505-511.
[3] Maria Villela-Petit: Art et vérité.
La réhabilitation herméneutique de La Mimèsis et ses limites,Les Études
philosophiques, No. 2, Avril-Juin 1998,p222 بإيجاز وتصرف.
[4] أرسطوطاليس،
فن الشعر، تر عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، ط1، 1953، ص ص 3-5
[5] المرجع نفسه، ص ص 8-9
[6] أرسطو ، فن الشعر، تر
إبراهيم حمادة، ، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، 1983، ص72
[7] أرسطو، فن الشعر، تر بدوي، ص18
[8] ينظر للتوسع :
Pierluigi Donini, "Mimésis" tragique et apprentissage de
la "Phronèsis" in:Les Études philosophiques, No. 4, (Octobre 2003), pp. 436-450
[9] Ada Neschke, «POIÉSIS» et «MIMÉSIS»
dans La"POÉTIQUE" d'Aristote. in:Poetica, Vol. 29, No. 3/4 (1997),
pp. 327-330
[10] Ibid ; p333
[11] Ibid, p333
[12] Ibid, p333
[13] Ibid, p338
[14] Ibid, p 339
[15] Sylvie Humbert-Mougin , L’Antiquité:
Naissance et affirmation d’un concept de théâtre, in:Didier Souiller et autres,
Etudes thétrales, Quadrige/Puf , Paris,1ere édition, 2005, p7
[16] Ibid, p342
[17] Hubert Laizé : Aristote-Poétique, Presses Universitaires de
France,(Puf), 1re edition 1990, voir les pages : 26-27, 29-30,
54-55
[18] Ibid, p30
[19] Maria Villela-Petit: Art
et vérité. La réhabilitation herméneutique de La Mimèsis et ses limites ,
OP.cit, p223
[20] جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب،
المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط3، 1992. ص22
[21] المرجع نفسه، ص ص 22-23 بإيجاز وتصرف.
[22] ينظرللتوسع:
Armisen-Marchetti Mireille ,La notion d'imagination chez les
anciens I : Les philosophes. In: Pallas, 26/1979. pp 19-26
[23] Ibid, p 19
[24] Cité par Daniele Guastini
in:Représentation ou répétition ? À propos de la traduction du mot mimèsis dans
la Poétique, Littérature,2016/2 N° 182, note 8, p42
[25] إبراهيم حمادة، من مقدمة ترجمته لكتاب الشعرلأرسطو، سبق ذكره، ص
45.
[26] كتاب أرسطوطاليس في الشعر، نقل أبي بشر متى بن أبي يونس القنائي،
ضمن أرسطوطاليس، فن الشعر، تر عبد الرحمن بدوي ، سبق ذكره، ص86
[27] ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د.ت، مجلد2/ ج12،
مادة "حكى"، ص 980.
[28] الفارابي، رسالة في قوانين صناعة الشعراء، ضمن أرسطوطاليس: فن
الشعر، تر عبد الرحمن بدوي ، سبق ذكره، ص150.
[29] المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[30] المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[31] المصدر نفسه، ص151.
[32] المصدر نفسه، ص ص 155-156.
[33] المصدر نفسه، ص 157.
[34] المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[35] الفارابي، جوامع الشعر، (مع تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر لابن
رشد )تحقيق محمد سليم سالم، لجنة إحياء التراث الاسلامي، القاهرة، د.ط، 1391-1971،
ص172
[36] المصدر نفسه والصفحة نفسها.
[37] المصدر نفسه، ص173.
[38] أرسطوطاليس، فن الشعر، تر بدوي، سبق ذكره، ص18. والتأكيد على
العبارة من عملنا.
[39] الفارابي، جوامع الشعر، ص174.
[40] المصدر والصفحة نفسهما.
[41] جابر عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، سبق ذكره،
ص22.
[42] المرجع نفسه، ص23.
[43] الفارابي، جوامع الشعر، ص174.
[44] المصدر نفسه، ص 175.
[45] المصدر والصفحة نفسهما.
[46] مثل شكري عياد وعصام قصبجي: ينظر، عصام قصبجي، أصول النقد العربي
القديم، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية، جامعة حلب، د.ط، 1416ه 1996 م، ص 62
وكذلك الهامش2.
[47] المصدر والصفحة نفسهما.
[48] الفارابي، المصدرالسابق، ص175، هامش1.
[49] إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت،
ط4، 1404ه- 1983 م، ص222.
[50] ابن سينا، فن الشعر من كتاب الشقاء، ضمن أرسطوطاليس: فن الشعر، تر
عبد الرحمن بدوي ، سبق ذكره، ص161.
[51] المصدر والصفحة نفسهما.
[52] ينظر مثلا: صفوت عبد الله الخطيب، (1987) الخيال مصطلحا نقديا بين
حازم القرطاجني والفلاسفة، مجلة فصول، القاهرة، المجلد7، العددان 3-4،
أبريل-سبتمبر 1987، ص63، وينظر: محمد عثمان نجاتي، الإدراك الحسي عند ابن سينا،
ديوان المطبوعات الجامعية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط 3، 1995، ص ص
194-218. وجابر عصفور، الصورة الفنية، سبق ذكره، ص ص 27- 36.
[53] ابن سينا، المصدر السابق، ص162.
[54] المصدر نفسه، ص 168 (بإيجاز)
[55] تنظر مثلا الصفحة 181 الفقرة الأولى، والصفحة 185 الفقرة الأولى، والصفحة 194 الفقرة
الأولى.
[56] المصدر نفسه، ص ص 171-175.
[57] المصدر نفسه، ص176.
[58] المصدر والصفحة نفسهما.
[59] أرسطوطاليس، فن الشعر، تر بدوي، سبق ذكره، ص18.
[60] ابن سينا، المصدر السابق، ص ص 169-170.
[61] ابن رشد، تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، سبق ذكره، ص57
[62] المصدر نفسه، ص ص 58-59 بإيجاز وتصرف.
[63] المصدر نفسه، ص 77.
[64] ينظر المصدر نفسه، ص65.
[65] المصدر نفسه، ص 66.
[66] ابن سينا، فن الشعر من كتاب الشفاء، سبق ذكره، ص 170.
[67] ابن رشد، المصدر السابق، ص 112.
[68] المصدر نفسه، ص 113.
[69] المصدر والصفحة نفسهما.
[71] المصدر نفسه، ص ص 114-115.
[72] المصدر نفسه، ص114.
[73] المصدر نفسه، ص ص 116-120.
[74] ينظر أرسطوطاليس، فن الشعر، تر بدوي، سبق ذكره، ص ص 3-11.
[75] حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب
ابن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1981، ص71
[76] الفارابي، جوامع الشعر، سبق ذكره، ص174.
[77] ابن رشد، تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، سبق ذكره، ص65.
[78] ينظر: ابن سينا، فن الشعر من كتاب الشفاء، ضمن أرسطوطاليس، فن
الشعر، تر عبد الرحمن بدوي ، سبق ذكره، الصفحات 162،163،170 "مثلا لا
حصرا".
[79] حازم القرطاجني، المصدر السابق،
ص ص 85-86
[80] حازم القرطاجني، المصدر السابق، ص92.
[81] المصدر نفسه، ص 96.
[82] فينسنتي كانتارينو، علم الشعر العربي في العصر الذهبي، تر محمد
مهدي الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ط،2004، ص92.
[83] ينظر عباس أرحيلة(2003)، حازم القرطاجني ومسألة التأثير الأرسطي
في النقد العربي القديم، مجلة عالم الفكر، الكويت، ع 2، م 2-3 أكتوبر ديسمبر 2003،
ص 207.
[84] ينظر حازم القرطاجني، المصدر السابق، ص ص 44-61.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire