Nombre total de pages vues

mardi 2 juin 2020


التبئير في السردين القرآني و التوراتي
The focalization in Koranik and Biblical narratives
*د.رياض بن يوسف
جامعة قسنطينة 1(منتوري)/ الجزائر
Riadh benyoucef
منشور بمجلة إشكالات في اللغة والأدب
المركز الجامعي لتامنغست
بتاريخ 02/06/2020
   نسعى من خلال هذا البحث إلى محاولة تحديد مفهوم التبئير و فاعليته الإجرائية من خلال رصد تطوره التاريخي بداية من نشأته الأولى على يد الناقد القصصي "جيرار جينيت" الذي قدم أكمل جهد نظري وإجرائي في السرديات المعاصرة  وكان السباق إلى ابتداع مصطلح التبئير بوصفه بديلا لمصطلح وجهة النظر، ثم نحاول رصد أهم الانتقادات التي تعرض لها عمل جينيت ولا سيما من طرف الناقدة الهولندية "ميك بال" ثم الناقد الفرنسي"بيار فيتو" اللذين حورا ووسعا مفهوم التبئير وكرسا فاعليته الإجرائية.  وانطلاقا من هذه المقدمات النظرية سعينا إلى امتحان النجاعة الإجرائية للمفهوم من خلال المقارنة بين طبيعة  التبئير في كل من السرد القرآني و السرد التوراتي وكانت عينة المقارنة هي قصة الخلق.
الكلمات المفتاحية: السرد، التبئير، القرآن، التوراة، قصة الخلق
Absract :
Through this article, we want to address the concept of focus and its effectiveness by following its historical development from the very beginning, thanks to Gérard Genette, who has developed the most perfectionist of contemporary theories of narratology. Then we try to follow the most important criticisms of the work of Genette, especially from the Dutch critic "Mieke Bal" and The compatriot of Genette "Pierre Vitoux", it is especially them who criticized and enriched the concept of fokalisation thus making it more applicable. Based on its theoretical foundations, we sought to test the effectiveness of the concept by applying it to the comparative approach of Koranic and biblical narratives, especially the history of Adam and Eve.
Keywords: narration, foccalization, Quran, Torah, Adam
                
1- مقدمة:
   يحتل "التبئير" مكانا محوريا في قلب الدراسات السردية المعاصرة تنظيرا وإجراء. ولا أدلَّ على ذلك من مواصلة استدعائه في راهن الدرس السردي المعاصر على اختلاف مشاربه، بعد أكثر من أربعة عقود من نحت المصطلح على أيدي "جيرار جينيت" Gerard Genette في كتابه الذائع الصيت "خطاب الحكاية"، فبعد النقد الذي أثاره مفهوم التبئير إبان نشأته في السبعينيات، وخاصة على يد الناقدة الهولندية "ميك بال" Mieke Balوالناقد الفرنسي"بيار فيتو"Pierre Vitoux، ظل الجدل حوله قائما حتى زمننا الحاضر، فقد برز في التسعينيات ومطالع الألفية الثالثة نقاد لامعون سعوْا إلى خلخلة المفهوم ونقد نظريات الرواد بمن فيهم نقاد "جينيت" أنفسهم ولعل من أبرز هؤلاء الفرنسي ألان راباتال Alain Rabatel الذي يسعى -منذ رسالته للدكتوراه ومن خلال مؤلفاته ومقالاته العديدة- إلى مراجعة جذرية لمفهومي التبئير ووجهة النظر منتقدا كل سابقيه دون استثناء، وهو في ذلك يسعى إلى إعادة المفهومين إلى حقلهما الأصلي أي الدرس اللساني، وتحديدا، الدرس التداولي والحجاجي، كما أنه يستبعد مصطلح التبئير ويفضل عليه المصطلح الأقدم: وجهة النظر.[1]    
ولا شك أن راباتال وغيره قد استفادوا كثيرا من الجهاز الاصطلاحي والإجرائي الذي يمنحه "التبئير" لدارس السرد الأدبي وحتى غير الأدبي. ومثل هذا الدرس ينطوي على رهان مزدوج: فهو من جهة امتحان لجدوى المفهوم إجرائيا، وهو من جهة أخرى محاولة لكشف خبايا النص السردي التي قد لا تتيحها أنماط المقاربات النفسية أو البنيوية التوليدية مثلا.
  وانطلاقا من رصدنا لأهمية مصطلح التبئير وحضوره الطاغي في الدراسات السردية، تولد لدينا فضول معرفي لتحديد مدلوله وسبْر جدواه: فما هو المفهوم الدقيق للتبئير عند المؤسس جيرار جينيت؟ وهل حظي هذا المفهوم بالإجماع لدى النقاد أم تعرض للنقد والتحوير؟ وما هي جدواه الإجرائية؟
    للإجابة عن هذه الأسئلة ارتأينا رصد التطور التاريخي للمفهوم، ثم امتحان جدواه الإجرائية من خلال نص سردي متعال هو القصص الرباني في القرآن الكريم، مقارنًا بالسرد التوراتي.

2 - التبئير لغة واصطلاحا:
    لفظ التبئير أو  La Focalisation، في منشئه الغربي، تعود جذوره إلى الكلمة اللاتينية Focus والتي تعني بيت الآلهة لارس وبيناتس ...كما تعني النار والمسكن.[2]  ولم يكن للفظ وجود في القرن 19، ففي معجم ليتري الشهير الصادر سنة 1874 لا نجد إلا اللفظ المشتق Focal بوصفه مصطلحا هندسيا و فيزيائيا.[3]
    أما في القرن العشرين فنجد اللفظ الوليد Focalisation قد نشأ في كنف الدرس اللساني لا الأدب، كما أنه ولد بصفته الاصطلاحية الحصرية ومعناه " La mise en relief " أي الإبراز ، "فحين نكتب نصا نضع أسطرا تحت بعض الكلمات، نكتب أخرى بحروف غليظة ................. والأمر نفسه بالنسبة للغة المنطوقة فالمتكلم يحتاج إلى إبراز بعض عناصر خطابه أي إلى تبئيرها ".[4]   
   أما في اللغة العربية فجذر كلمة "التبئير" هو الفعل الثلاثي "بأر" جاء في لسان العرب:"..بأرت بئرا وبأرها يبأرها وابتأرها: حفرها. أبو زيد: بأرت أبأر بأرا: حفرت بؤرة يُطبخ فيها..............والبؤرة كالزبية من الأرض وقيل هي موقد النار.....و بأر الشيء يبأره بأرا وابتأره ، كلاهما: خبأه ، وادخره ، ومنه قيل للحفرة :البؤرة. والبؤرة والبئرة والبئيرة، على فعيلة: ما خُبئ وادُّخر."[5]  
  أما في معجم "العين" فترد كلمة "بأر" بمعنيين:" .. بأرت الشيء وابتأرته وائتبرته، لغات: أي خبَأته .....و بأرتُ بؤرة أي:حفيرة فأنا أبأرها بأرا ، وهي حفيرة صغيرة للنار توقد فيها".[6] 
أما في المعجم الوسيط فنقرأ ما يأتي :" بأر بأرا: حفر بؤرة ، وبأر البئر أو البؤرة :حفرها وبأر الشيء خبأه وادخره ، وبأر الخير : عمله مستورا.............البؤرة: الحفرة، والبؤرة الحفرة توقد فيها النار، والبؤرة ما يُدَّخر".[7] 
    أما اصطلاحا فالتبئير هو " تقليص حقل الرؤية عند الراوي وحصر معلوماته. سمي هذا الحصر بالتبئير لأن السرد يجري فيه من خلال بؤرة تحدد إطار الرؤية وتحصره".[8]  أو هو " انتقاء للمعلومة السردية أداته بؤرة واقعة في مكان ما هي ضرب من المصفاة لا يسمح إلا بمرور المعلومة التي يخولها المقام".[9]  وهذان التعريفان مستوحيان من جيرار جينيت حصرا، وإلا فإن مفهوم التبئير، بمعنى تقليص حقل الرؤية عند الراوي أو انتقاء المعلومة السردية، قد لقي انتقادات بناءة ساهمت في تحوير وتوسيع مفهومه، خاصة عند الناقدين ميك بال Mieke Bal  وبيار فيتو Pierre Vitoux كما سنرى.
3 – في المصطلح: من وجهة النظر إلى التبئير:
      يمثل " التبئير" رافدا نظريا و إجرائيا لا يمكن تخطيه في السرديات المعاصرة. ويعود الفضل في إرسائه، بداية من التسمية، إلى الناقد البنيوي الفرنسي جيرار جينيت ، في كتابه "خطاب الحكاية" وهو القسم الأكبر في الجزء الثالث من سلسلة تحمل كلها العنوان الرئيس نفسه " Figures"
  لكن المصطلح الذي ساد قبله هو مصطلح "وجهة النظر" أو "زاوية الرؤية" Point of view الذي ظهر منذ زمن غير يسير في الفضاء النقدي الأنجلوسكسوني والجرماني فقد كان " هنري جيمس Henry James و الناقد الألماني فريدريك سبيلهاجن Friedrich Spielhagen (1883) من أوائل الكتاب الذين ناقشوا وجهة النظر على نحو مفصل".[10]
   ولوجهة النظر هذه أهمية كبرى في الفضاء النقدي الغربي، ولا غرابة في ذلك، لأن "وجهة النظر" تطبع العمل بطابع خاص، وتمنحه "مذاقه" المميز الذي سيختلف لو تغيرت وجهة النظر، أو زاوية الرؤية فقد كانت كل من الجريمة والعقاب لدستويفسكي Dostoïevski والقلعة لكافكا Kafka، مثلا، مكتوبة بأسلوب الشخص الأول و"ما كان أولئك الكتاب يقومون بعملية مجهدة كهذه لو اعتقدوا بأن وجهة النظر لا تهم. وفي أحوال كثيرة قد تتغير قصة إلى حد لا يمكن من التعرف عليها، أو قد تختفي كليا إذا غيرت وجهة النظر".[11]  ولعل هذا يذكرنا بنماذج معروفة من الأدب العربي فسيرة طه حسين "الأيام" رُويت كلها بضمير الغائب، ولو رُويت بضمير المتكلم لانكمش كثير من سحرها وأسْرها للمتلقي.
   ولقد تتابع و تجدد البحث حول"وجهة النظر" لعقود، حتى بلغ ذروة اكتماله عند جيرار جينيت الذي يعد كتابه "خطاب الحكاية" بشهادة جوناثان كالرJonathan Culler  " أكمل محاولة لدينا لتعرف مكونات الحكاية و تقنياتها الأساسية، ولتسميتها وتوضيحها ".[12] 
فما الجديد الذي قدمه جينيت؟
  يتحدث جيرار جينيت في الفصل الرابع من كتابه المخصص لتحليل رواية" بحثا عن الزمن المفقود" ل " مارسيل بروست" Marcel Proust عن الصيغة Mode  وهو ما عرف في النقد الحديث منذ نهاية القرن التاسع عشر تحت مسمى وجهة النظر، أو زاوية الرؤية، وتعني  حسب جون بويون jean pouillon  وتودوروف todorov العلاقة بين السارد والشخصية ، وهي ذات تنميط ثلاثي الأطراف:
 السارد > الشخصية (حيث يعلم السارد أكثر من الشخصية ، بل يقول أكثر مما تعلمه أي شخصية من الشخصيات) .
السارد = الشخصية (فالسارد لا يقول إلا ما تعلمه إحدى الشخصيات).
السارد <   الشخصية (فالسارد يقول أقل مما تعلمه الشخصية).[13]  
وبعد أن ينتقد جينيت الخلط الذي وقع فيه النقاد بين المنظور والصوت السردي يقترح مصطلحا بديلا لمصطلح وجهة النظر- لما لهذا الأخير من مضمون بصري مفرط الخصوصية – هو مصطلح التبئير. الذي أخذه من تعبير بروكس ووارين  Brooks and Warren "بؤرة السرد".[14]
     ويقسم الحكاية من حيث درجة التبئير إلى نوعين :
1-      الحكاية غير المبأرة ، أو ذات التبئير الصفر(وهو النمط الذي تمثله الحكاية الكلاسيكية عموما) .
2-      الحكاية ذات التبئير الداخلي وهو ثلاثة أنواع :
- 1.2  -  تبئير ثابت : كل شيئ يمر من خلال شخصية واحدة.
-2.2 -  تبئير متغير : كل شيئ يمر من خلال شخصيتين أو أكثر بالتناوب.
-3.2 - تبئير متعدد : كل شيئ يمر من خلال شخصيات متعددة كما في الروايات الترسلية التي يمكن فيها التصدي للحدث الواحد مرات عدة حسب وجهة نظر شخصيات مترسلة عدة.[15] 
    3 – الحكاية ذات التبئير الخارجي: "التي يتصرف فيها البطل أمامنا دون أن يسمح لنا بمعرفة أفكاره أو عواطفه".[16]  
    ويلاحظ جينيت أن عبارة التبئير "لا تنصب دائما على عمل أدبي بأكمله ، بل على قسم سردي محدد ، يمكن أن يكون قصيرا جدا ".[17]
   والواقع أن الجهاز الاصطلاحي والإجرائي الذي قدمه جينيت لم يحظ بإجماع النقاد، وقد تركز الخلاف بينهم حول مسألة أساسية هي: من هو المبئِر Le Focalisateur وما هي العلاقة بينه وبين المبأَّر Le Focalisé؟[18]   والجدل الذي دار حول هذه القضايا ذو طابع نظري - إجرائي كالنقاش الذي دار بين "ميك بال" و"جينيت" حول علاقة المبئِر بالمبأَر، حيث ذهبت "ميك بال"، مثلا، إلى أن الشخصية المبأرة تبئيرا داخليا هي نفسها مبئرة، وخالفها جينيت معتبرا أن مصطلح مبأَر لا يمكن أن ينطبق إلا على الحكاية نفسها، أما مصطلح مبئِر فلو انطبق على أي أحد فعلى ذلك الذي يبئر الحكاية.[19]  ولكن ميك بال أصرت على مواصلة خوض الجدال مع جينيت إلى النهاية معتبرة جهدها محاولة لجعل أفكار جينيت أكثر قابلية للتطبيق وبالتالي فهي تهدف إلى تأسيس نظرية للنص السردي ضد ما أسمته إعصار المؤسسة الجينيتية (نسبة إلى جينيت).[20] 
وهي تنتقد خلط جينيت بين ذات التبئير أي المبئِّر وموضوع التبئير أي المبأَّر وتقترح توسيع مفهوم التبئير ليتجاوز الدلالة البصرية، ويصبح ما هو مرئي شاملا لكل ما يتم تقديمه (في القصة) من شخصيات أو أماكن أو أحداث وهو ما تسميه بعد ذلك "مركز الاهتمام".[21]
    وهي ترى أن هناك ما يسمى بالمبئِّر "المختلف عن الراوي Le Narrateur"، وكما يمكن للراوي أن يتنازل عن الكلام (لإحدى شخصياته) فكذلك يمكن للمبئِّر أن يتنازل (لها) عن التبئير، وإذا بدأت الحكاية بتبئير خارجي ثم تم الانتقال إلى التبئير الداخلي، فليس المبئر بالضرورة هو الذي تغير ، فهذا يمكن أن يتعلق أيضا بالمبأَر، أي الشخص "المرئي من الداخل" باعتباره موضوعا لا ذاتا للتبئير.[22]
إن ما تقوله ميك بال هنا هام جدا: فالشخصية المبأَّرة يمكن أن ينظر إليها، هي نفسها، وبمعزل عن أحداث القصة، في جوانيتها، دون أن تكون عاكسة بالضرورة لأحداث القصة.
   أما "بيار فيتو" فيستفيد من نقد ميك بال لجينيت ليقترح نظرية بديلة حول التبئير. فهو أولا ينتقد ازدواجية مفهوم التبئير الداخلي عند جينيت باعتباره مرتبطا في الوقت نفسه بذات التبئير وموضوعه أي أن فيتو ينتقد التباس المفهوم الجينيتي: ففي التبئير الداخلي يكون المبئِّر هو السارد أو الراوي أي ذات التبئير، وفي الوقت نفسه الشخصية المبأرة التي ترى، أي موضوع التبئير، ولفك هذا الالتباس بين الذات والموضوع يقترح فيتو – مستلهما ميك بال- النموذج الآتي:
1- ذات التبئير غير المسند إليها Focalisation sujet non déléguée ويرمز لها اختصارا ب: Fsnd= (وهي تقابل التبئير في درجة الصفر عند جينيت، أي السارد العليم الذي لا يسند التبئير لأية شخصية ولا يسنده إليه سواه).
2- ذات التبئير المسند إليها Focalisation sujet déléguée ويرمز لها اختصارا ب: Fsd = (أي حين يسند الراوي التبئير لإحدى الشخصيات وهي تقابل التبئير الداخلي عند جينيت).
3- موضوع التبئير الداخلي  Focalisation objet interne ويرمز لها اختصارا ب: Fo int
4- موضوع التبئير الخارجي.Focalisation objet externe ويرمز لها اختصارا ب: Fo ext  [23] 
 إن ما يضيفه فيتو هنا، ونقصد تحديدا موضوعي التبئير الداخلي والخارجي، وما أضافته قبله ميك بال، محوري ومفصلي في سياق دراستنا، فهو يثري ويوسع مفهوم التبئير ليشمل دخيلة الشخصية دون أن تكون ذاتا للتبئير كما كان عليه الأمر عند جينيت الذي ضيق كثيرا من مفهوم التبئير، مقلصا بذلك فاعليته الإجرائية، فالشخصية في القصة ليست مجرد عاكسة للأحداث بوصفها موضوعا للتبئير الداخلي، بل هي نفسها موضوع للتبئير الداخلي حين يتم الكشف عن مشاعرها وأفكارها، وهي نفسها أيضا موضوع للتبئير الخارجي حين يتم الاكتفاء بتصويرها ظاهريا دون نفاذ إلى أعماقها المستترة.
وانطلاقا من هذه المسلمة النظرية نسعى إلى مقاربة السرد القرآني الكريم من زاوية التبئير مع مقارنته بالسرد التوراتي، أما عينة المقارنة فهي قصة الخلق. 
4 - التبئير بين السردين القرآني و التوراتي
       قصة الخلق نموذجا:
 1.4-  النص التوراتي من سفر التكوين:
جنة عدن
....7 وجبَلَ الرّبُّ الإلهُ آدَمَ تُراباً مِنَ الأرضِ ونفَخَ في أنْفِه نَسَمَةَ حياةٍ. فصارَ آدمُ نفْساً حيَّةً.  8. وغرَسَ الرّبُّ الإلهُ جَنَّةً في عَدْنٍ شَرقاً، وأسكنَ هُناكَ آدمَ الذي جبَلَهُ.  .....15. وأخذَ الرّبُّ الإلهُ آدمَ وأسكنَهُ في جَنَّةِ عَدْنٍ لِـيَفلَحَها ويَحرُسَها.  16. وأوصى الرّبُّ الإلهُ آدمَ قالَ مِنْ جميعِ شجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ،  17. وأمَّا شجَرَةُ معرِفَةِ الخيرِ والشَّرِّ فلا تأكُلْ مِنها. فيومَ تأكُلُ مِنها موتاً تموتُ.  18. وقالَ الرّبُّ الإلهُ لا يَحسُنُ أنْ يكونَ آدمُ وحدَهُ، فأَصنعُ لَه مَثيلاً يُعينُه.  19. فجَبلَ الرّبُّ الإلهُ مِنَ الأرضِ جميعَ حيواناتِ البرِّيَّةِ وجميعَ طَيرِ السَّماءِ، وجاءَ بِها إلى آدمَ لِـيرى ماذا يُسَمِّيها، فيحمِلَ كُلٌّ مِنها الإسمَ الّذي يُسمِّيها بهِ.  20. فسمَّى آدمُ جميعَ البَهائمِ وطيورَ السَّماءِ وجميعَ حيواناتِ البرِّيَّةِ بأسماءٍ، ولكِنَّهُ لم يَجِدْ بَينَها مثيلاً لَه يُعينُهُ.  21. فأوقَعَ الرّبُّ الإلهُ آدمَ في نَومٍ عميقٍ، وفيما هوَ نائِمٌ أخذَ إحدى أضلاعِهِ وسَدَّ مكانَها بِلَحْمٍ.  22. وبنى الرّبُّ الإلهُ ا‏مْرأةً مِنَ الضِّلعِ التي أخذَها مِنْ آدمَ، فجاءَ بِها إلى آدمَ.  23. فقالَ آدمُ هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظامي ولَحمٌ مِنْ لَحمي هذِهِ تُسَمَّى ا‏مرأةً‌ فهيَ مِنْ ا‏مرِئٍ أُخِذَت.  24. ولِذلِكَ يترُكُ الرَّجُلُ أباهُ وأُمَّهُ ويتَّحِدُ با‏مرأتِهِ، فيصيرانِ جسَداً واحداً‌.  25. وكانَ آدمُ وا‏مرأتُه كِلاهُما عُريانَينِ، وهُما لا يَخجَلانِ.
السقوط
3 وكانَتِ الحَـيَّةُ‌ أحيلَ جميعِ حيواناتِ البرِّيَّةِ الّتي خلَقَها الرّبُّ الإلهُ. فقالت لِلمَرأةِ أحقًّا قالَ اللهُ لا تأكُلاَ مِنْ جميعِ شجَرِ الجَنَّةِ‌  2. فقالتِ المَرأةُ لِلحَـيَّةِ مِنْ ثَمَرِ شجَرِ الجَنَّةِ نأكُلُ،  3. وأمَّا ثَمَرُ الشَّجَرَةِ الّتي في وسَطِ الجَنَّةِ فقالَ اللهُ لا تأكُلا مِنهُ ولا تَمَسَّاهُ لئلاّ تَموتا.  4. فقالتِ الحَـيَّةُ لِلمَرأةِ لن تموتا،  5. ولَكِنَّ اللهَ يعرِفُ أنكُما يومَ تأكُلانِ مِنْ ثَمَرِ تِلكَ الشَّجَرَةِ تنفَتِحُ أعينُكُما وتَصيرانِ مِثلَ اللهِ تعرفانِ الخيرَ والشَّرَّ.  6. ورأتِ المَرأةُ أنَّ الشَّجَرةَ طيِّبةٌ لِلمَأكلِ وشَهيّةٌ لِلعَينِ، وأنَّها باعِثَةٌ لِلفَهْمِ، فأخذَت مِنْ ثَمَرِها وأكَلَت وأعطَت زوجَها أيضاً، وكانَ مَعَها فأكَلَ.  7. فا‏نْفَتَحت أعيُنُهما فعَرفا أنَّهُما عُريانَانِ، فخاطا مِنْ وَرَقِ التِّينِ وصَنَعا لهُما مآزِرَ.  8. وسَمِعَ آدمُ وا‏مرأتُه صوتَ الرّبِّ الإلهِ وهوَ يتمشَّى في الجَنَّةِ عِندَ المساءِ، فا‏خْتبأَا* مِنْ وَجهِ الرّبِّ الإِلهِ بَينَ شجَرِ الجَنَّةِ.  9. فنادَى الرّبُّ الإلهُ آدمَ وقالَ لَه أينَ أنتَ  10. فأجابَ سَمِعتُ صوتَكَ في الجَنَّةِ، فَخِفتُ ولأنِّي عُريانٌ ا‏ختَبأتُ.  11. فقالَ الرّبُّ الإلهُ مَنْ عَرَّفَكَ أنَّكَ عُريانٌ هل أكلتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الّتي أوصَيتُكَ أنْ لا تأكُلَ مِنها  12. فقالَ آدمُ المرأةُ الّتي أعطَيتني لِتَكونَ مَعي هيَ أعطتني مِنَ الشَّجرَةِ فأكَلْتُ.  13. فقالَ الرّبُّ الإلهُ لِلمرأةِ لِماذا فَعَلتِ هذا فأجابَتِ المَرأةُ الحَـيَّةُ أغوتْني فأكلْتُ‌.  14. فقالَ الرّبُّ الإلهُ لِلحَـيَّةِ لأنَّكِ فعَلْتِ هذا فأنتِ مَلعونَةٌ مِنْ بَينِ جميعِ البَهائِمِ وجميعِ وُحوشِ البَرِّ. على بَطنِك تَزحفينَ وتُراباً تأكُلينَ طُولَ أيّامِ حياتِكِ.  15. بَينَكِ وبَينَ المَرأةِ أُقيمُ عَداوةً وبَينَ نسلِكِ ونسلِها فهوَ يتَرقَّبُ مِنكِ الرّأسَ‌ وأنتِ تـتَرقَّبـينَ مِنْه العَقِبَ.  16. وقالَ لِلمَرأةِ أزيدُ تعَبَكِ حينَ تَحبَلينَ، وبالأوجاعِ تَلِدينَ البَنينَ. إلى زَوجِكِ يكونُ ا‏شتياقُكِ، وهوَ علَيكِ يسودُ.  17. وقالَ لآدمَ لأنَّكَ سَمِعتَ كلامَ ا‏مْرأتِكَ، فأكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الّتي أوصَيتُكَ أنْ لا تأكُلَ مِنها تكونُ الأرضُ مَلعونَةً بِسبَبِكَ. بِكَدِّكَ تأكُلُ طَعامَكَ مِنها طولَ أيّامِ حياتِكَ.  18. شَوكاً وعَوسجاً تنبِتُ لكَ، ومِنْ عُشْبِ الحقلِ تقتاتُ‌.  19. بِــعَرَقِ جبـينِكَ تأكُلُ خُبزَكَ حتّى تَعودَ إلى الأرضِ لأنَّكَ مِنها أُخِذْتَ. فأنتَ تُرابٌ، وإلى التُّرابِ تعُودُ.  20.  [24]
2.4-النص القرآني من سورة البقرة:
" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)" البقرة 30-39
5- المقارنة:
  نلاحظ ،بداية، الطول المفرط للقصة التوراتية – وقد حذفنا منها قدرا لا بأس به- وإيجاز القصة القرآنية، لكن القصة القرآنية أحفل بالدلالات، وأشد اغتناء بالفواعل السردية، فما يظهر أولا في المشهد السردي التوراتي ليس إلا معطيات جغرافية وفلكية دقيقة الحيثيات، مملة التفاصيل، لا تمثل إلا حشوا في بداية القصة. أما القرآن الكريم فيفتتح السرد بحوار مع ملائكته حول "الخليفة" القادم. هناك إذا فاعل أو فاعلون تم إغفالهم تماما في النسخة التوراتية من قصة الخلق وهم الملائكة. لكنهم في النص القرآني يبأرون تبئيرا داخليا صرفا، فلا نتعرف عليهم إلا من خلال مخاوفهم الإيمانية" أتجعل فيها من يفسد فيها.....و نحن نسبح لك"، وإيمانهم وإذعانهم المطلق "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا". هكذا نلاحظ الغياب المتكرر للملائكة في النص التوراتي: غياب حوار البدء، غياب التحدي بالأسماء، وغيبة مشهد السجود.
ونلاحظ في القصة التوراتية التباس ذات التبئير غير المسند إليها Fsnd أي السارد العليم وموضوع التبئير الخارجي Fo ext المشخصن والمؤنسن، فالذات الإلهية في التوراة، رغم أنها تمثل في مطلع السرد ذات التبئير إلا أنها سرعان ما تغدو مبأرة تبئيرا خارجيا حين يسمع آدم وحواء صوت الرب الإله وهو يمشي في الجنة فيختبئان منه: إن هذا الالتباس في المنظور السردي مفارقة أولى تفاجئنا ونحن نتصفح النص التوراتي، بينما تظل ذات التبئير في السرد القرآني الكريم متفلتة من التحديد "الجينيتي" وما بعده، فالخالق سبحانه هو السارد العليم الذي يزاوج – عبر بلاغة الالتفات- بين ضميري الغائب "هو": (( وإذ قال ربك للملائكة....وعلَّم آدم الأسماء كلها))، والمتكلمين"نحن": (( وقلنا يا آدم..وقلنا اهبطوا...))، ومع هذا التنوع في الضمائر تظل ذات التبئير، أي السارد العليم، واحدة وهو وضع خاص ينفرد به السرد القرآني المعجز والمتملص من أحادية ضمير الراوي في السرود البشرية.
   وفي القصة القرآنية تمثل الأسماء المجردة، غير المرتهنة لمعجم أو حقل دلالي بعينه، في قوله تعالى (( وعلّم آدم الأسماء)) تحديا للمعرفة الباطنية عند الملائكة (العليم الخبير)، ولأهلية الاستخلاف عند آدم، أما "الأسماء" في النص التوراتي فوردت بالشكل الآتي :" فجَبلَ الرّبُّ الإلهُ مِنَ الأرضِ جميعَ حيواناتِ البرِّيَّةِ وجميعَ طَيرِ السَّماءِ، وجاءَ بِها إلى آدمَ لِـيرى ماذا يُسَمِّيها، فيحمِلَ كُلٌّ مِنها الإسمَ الّذي يُسمِّيها بهِ." فهي مرتهنة لمعجم "زولوجي" محض إذ أنها مجرد تسمية لسلسلة حيوانية خبيثة أدت إلى حواء بوصفها بديلا حيوانيا أرقى:" فسمَّى آدمُ جميعَ البَهائمِ وطيورَ السَّماءِ وجميعَ حيواناتِ البرِّيَّةِ بأسماءٍ، ولكِنَّهُ لم يَجِدْ بَينَها مثيلاً لَه يُعينُهُ.  21. فأوقَعَ الرّبُّ الإلهُ آدمَ في نَومٍ عميقٍ، وفيما هوَ نائِمٌ أخذَ إحدى أضلاعِهِ وسَدَّ مكانَها بِلَحْمٍ.  22. وبنى الرّبُّ الإلهُ ا‏مْرأةً مِنَ الضِّلعِ التي أخذَها مِنْ آدمَ، فجاءَ بِها إلى آدمَ".... فكأن "داروين" هو من يتحدث هنا!!
   ويُقَدم آدم وحواء عليهما السلام في النص التوراتي بصفة لم ترد في القرآن وهي العري. إن مثل هذه الصفة تصرف انتباه المتلقي إلى جسديهما فحسب. فثمة هنا تبئير خارجي متطرف للشخصية، و يتأكد هذا التبئير حين ندرك طريقة خلق حواء حسب المنظور التوراتي، فهي خلقت من ضلع آدم، أي أنها امتداد جسدي ظاهري، أما في القرآن الكريم، وخارج سياق قصة الخلق في سورة البقرة، فإننا نقرأ في أول سورة النساء قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) النساء 1 . فخلْقُ حواء هو من المصدر ذاته الذي خلقت منه ذرية آدم أي النفس. فالكائن البشري في قصة الخلق القرآنية إذن، مبأر تبئيرا داخليا بوصفه نفسا، أما في قصة التكوين التوراتية فإنه مبأر تبئيرا خارجيا متطرفا بوصفه جسدا عاريا، والقرآن الكريم لا يذكر مادة خلق الإنسان أي الطين، إلا مقرونة بالنفخ فيه من روح الله عز وجل. قال تعالى((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72))) ص 71-72، فلحظة الأمر بالسجود كانت بعد النفخ لا في المرحلة الطينية وهذا يعني أن الآدمية لم تتحقق قبل تلك اللحظة الحاسمة أي لحظة الخلق. والتوراة تُغفل ما بين المرحلتين: المرحلة الطينية، والمرحلة النفخية/النفسية وتكتفي بعبارة "وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً " أما آثار ذلك على مكانة آدم، وتحوله من وضعية بدئية تستنبط من النص القرآني وهي وضعية التمثال إلى وضعية نهائية هي وضعية الإنسان، ودعوة الملائكة للسجود له، كل ذلك مغيب من النص التوراتي، الذي أهمل التاريخ الحقيقي، أي ذروة الحبكة السردية المتمثلة في تفاصيل خلق آدم ليغرق في تضاريس الجغرافيا، وهذا ما يتجلى، مثلا، في الفقرة "الجيولوجية" التالية حيث توصف الأنهار وصفا دقيقا " 10 وكانَ يخرُجُ مِنْ عَدْنٍ نهرٌ فيَسقي الجَنَّةَ، ويتَشَعَّبُ مِنْ هُناكَ فيصيرُ أربعةَ أنهارٍ،  11. أحَدُها ا‏سْمُه فيشُونُ، ويُحيطُ بِـجميعِ أرضِ الحَوِيلَةِ حَيثُ الذَّهَبُ،  12. وذهَبُ تِلكَ الأرضِ جَيِّدٌ. وهُناكَ اللؤلُؤُ وحجَرُ العقيقِ.  13. وا‏سمُ النَّهرِ الثَّاني جيحُونُ، ويُحيطُ بِـجميعِ أرضِ كوشٍ‌  14. وا‏سمُ النَّهرِ الثَّالثِ دِجلَةُ، ويجري في شَرقي أشُّورَ. والنَّهرُ الرَّابعُ هوَ الفُراتُ. "
    فلماذا تحول هذا المكان إلى بؤرة سردية فجأة دون أن يكون له أي دور في سياق الأحداث؟!
إن هذا المكان الجغرافي يصبح في النص التوراتي "مركز الاهتمام" بتعبير ميك بال، وهذا يجعلنا نفترض أن له دلالة معينة في سياق الأحداث، أو أنه حافز حركيMotif Dynamique بتعبير توماشيفسكي. Tomachevski[25] ولكنه في الواقع مجرد حافز قار أو ميت، لا دور له في سياق الحبكة السردية. فهو مجرد حلية ثقيلة..لا بريق لها!
   أما إهمال التوراة لوضعية آدم الوسطية فيتجلى بشكل أوضح من خلال غياب فاعلين أساسيين في النص التوراتي، أي الملائكة، وكذلك إبليس، فالملائكة يمثلون الطاعة المطلقة، بينما يمثل إبليس المعصية المطلقة، فقد وردت شخصيته بوصفه ذات تبئير مسند إليها  Fsd وقامت هذه الذات بتبئير شخصية آدم تبئيرا خارجيا متطرفا كما يتجلى ذلك في قوله تعالى على لسانه ((قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ))الحجر33.
   أما نصيب آدم فهو التردد بين هذين القطبين: الطاعة المعصية، وهو التردد الذي حسمته التوبة والاستغفار. وكل هذه المعادلة مغيبة تماما من النص التوراتي فلا أثر فيه لآدم الذي تلقى ((من ربه كلمات فتاب عليه)) وحواء التي صاحت مع آدم عليهما السلام ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))  الأعراف23.
  فالتوراة، في تبئيرها الخارجي المتطرف للفاعِلَيْن، تطمر مشاعر الإيمان لديهما عكس القرآن الكريم الذي يبئر فاعليه تبئيرا داخليا صرفا، ولا يبرز من مشاعرهم إلا هذا الجانب الإيماني في مختلف حالاته و تقلباته.
   يبدو، إذن، تضاد رؤيتي الساردين في كل من النص القرآني والتوراتي -بوصفهما ذاتي التبئير غير المسند إليهما Fsnd- شديد الوضوح: ففي النص التوراتي يهيمن التبئير الخارجي ويحضر –حصرا- معجم الجسد بوصفه تحديدا لطبيعة الفاعلين الأساسيين (آدم وحواء والحية): الرأس، العقب، البطن، الأكل، وجع الحبل والولادة، الاشتياق "الشهوة"، التعب، العرق. وحتى اختفاء آدم وحواء بعد الخطيئة إنما يشكل تبئيرا خارجيا لهما، فهما يختبئان خلف الشجرة بوصفهما جسدين قابلين للتخفي مما دفع "الرب" إلى سؤال آدم "أين أنت؟" !!! فاختفاء الجسد هنا يعني في المنظور التوراتي العجيب أن الذات الإلهية، أي السارد العليم، ليس أكثر من ملاحظ محايد كأية شخصية في القصة.
أما محددات الفاعلين الأساسيين في النص القرآني الكريم فهي نفسية ومعنوية، ولهذا يهيمن فيه التبئير الداخلي من خلال المعجم الروحي- الإيماني:  نسَبِّحُ، نُقَدِّسُ، الكافرين، الظالمين، أبى واستكبر، خوف، تبدون، تكتمون، صادقين، يحزنون... 
   ويتأكد هذا الفرق في المنظورين السرديين بين القرآن الكريم والتوراة من خلال طبيعة العقاب المنذور لذرية آدم في حالة المعصية، فعقاب الحية في التوراة هو أن تزحف على بطنها وتأكل التراب، وأن تترقب غدر الإنسان برأسها أي سحْقه بالحجارة، أما عقاب حواء فهو أن تغدر الحية بأعقاب أبنائها (أي أقدامهم)، وأن تعاني أوجاع الولادة، وأن تشتهي زوجها وتخضع له. بينما كان عقاب آدم أن يشقى بزراعة الأرض، ويقتات من عشب الحقل ويأكل خبزه بعرقه.
  العقاب في التوراة إذن جسدي محض، يتم استعراضه من خلال تبئير خارجي صرف للفاعلين الأساسيين في القصة، أما في القرآن الكريم فليس هناك عقاب جسدي فلا تعب ولا حَبَل ولا عرق ولا غدر بالأعقاب أو الرؤوس، فنتيجة امتحان الأكل من الشجرة هي المآل المنطقي لسلسلة سببية بدأت برفض إبليس السجود لآدم مع إصراره على المعصية، ثم إغواؤه مع زوجه حواء وإقناعه إياهما بالأكل من الشجرة المحرمة، ثم توبة آدم وعدم إصراره على المعصية، وكل هذه المقدمات هي التي أفضت إلى النتيجة المنطقية المتمثلة في إعلان الخالق سبحانه العداوة الأبدية بين إبليس وذرية آدم عليه السلام. وهذه العداوة تعني سعي إبليس لمحاولة إغواء ذرية آدم كما أغوى أبويهم، والغواية تعني صرفهم عن سبيل الحق والإيمان، فالعداوة بين الطرفين مرتبطة ببؤرتين نفسيتين: الحقد والكبْر عند إبليس، ورغبته الملحة في الانتقام كما ورد في قوله تعالى على لسانه (( قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) .)) الأعراف14-17 أما البؤرة النفسية عند بني آدم فمحصورة بين قطبي الإيمان والكفر، أو الهدى والضلال.
  فإذا كانت طبيعة الحياة الدنيا -بعد الخطيئة- مبأرة في التوراة تبئيرا خارجيا، بوصفها عقابا جسديا لآدم وحواء وذريتهما، فإنها في النص القرآني الكريم مبأرة تبئيرا داخليا بوصفها عداوة -ذات أبعاد نفسية خالصة- نشأت من كبرياء الشيطان وندم الإنسان. فكل من الكبرياء والندم محدد لطبيعة القطبين المتصارعين على الأرض، الشيطان العاجز عن التوبة وعن الندم والمصر على العصيان وممارسة الإغواء، والإنسان الخطّاء الذي يتردد دائما بين المعصية والاستغفار.
6- الخلاصة:
يمكن أن نجمل أهم ما توصلنا إليه من خلال بحثنا هذا فيما يأتي:
1- يمثل التبئير رافدا نظريا وإجرائيا مهما في السرديات المعاصرة، ولكنّ نَحْت المفهوم- بعد نحت المصطلح- ظل مستمرا بعد المؤسس جيرار جينيت، ومن أبرز الإضافات التي حررت مفهوم التبئير من دلالته الضيقة وكرست صلابته الإجرائية ما قدمته كل من "ميك بال" و"بيار فيتو"، فلا غنى للباحث عن الاستفادة من تنظيراتهما التي تمكنه من مقاربة المنظور السردي على قاعدة أوسع، بحيث يتجاوز التنميط الثلاثي لجينيت إلى التعامل مع المحكي كله بوصفه موضوعا للتبئير، كما يتجاوز في الوقت نفسه التباس وازدواجية مفهوم التبئير الداخلي عند جيرار جينيت.
2- لاحظنا في القسم الإجرائي من الدراسة التباس ذات التبئير غير المسند إليها Fsnd في السرد التوراتي، أي السارد العليم، بموضوع التبئير الخارجي Fo ext، وهي مفارقة عجيبة في المنظور السردي حولت الشخصية البؤرية إلى مجرد ملاحظ هامشي كأية شخصية بشرية، بينما لاحظنا أن ذات التبئير غير المسند إليها في السرد القرآني- رغم تعدد الضمائر وهيمنة بلاغة الالتفات- تظل دالة دلالة مطلقة على السارد العليم، وهي وضعية فريدة خاصة بالنص القرآني المعجز.
3- لاحظنا في التوراة غياب فاعلين أساسيين هم الملائكة وإبليس، وحضورهم في السرد القرآني كان ذا وظيفة محورية: حيث أبرز الوضعية الوسطية لآدم وتردده بين قطبي الإيمان والمعصية.
4- لاحظنا في التوراة هيمنة الوصف الجغرافي، بحيث أصبح المكان بؤرة سردية دون أن يكون ثمة تبرير لهذا الوضع من خلال منطق الحبكة، فالأماكن الموصوفة في التوراة ظلت حوافز قارة وغير ديناميكية، ولم ترتبط بأية سلسلة سببية أو دلالة رمزية.
5-      لاحظنا تضادا جوهريا بين النصين القرآني والتوراتي في المنظور السردي المتعلق بآدم وحواء: فبينما يتم تبئيرهما في التوراة تبئيرا خارجيا بوصف كل منهما جسدا عاريا، يتم تبئيرهما في النص القرآني الكريم بوصفهما نفسا واحدة.
6-      لاحظنا هيمنة معجم الجسد في التوراة وهيمنة المعجم الروحي الإيماني في القرآن، وما يستتبعه ذلك من اختلاف في المنظور وزاوية التبئير، فمشاعر الإيمان والخوف والندم البارزة بقوة في النص القرآني، تغيب تماما في النص التوراتي ليحل بدلا منها معجم الجسد والعقاب الحسي. فالمنظور السردي في كل من النص القرآني الكريم والنص التوراتي يحيل إلى رؤيتين مختلفتين لجوهر الإنسان وطبيعة الحياة الدنيا: فالإنسان في التوراة جسد مسكون بالغرائز، والحياة الدنيا عقاب جسدي لآدم وذريته بسبب الخطيئة، أما الإنسان في القرآن الكريم فيُبَأَّر تبئيرا داخليا خالصا بوصفه نفسا، ولا تمثل له الحياة الدنيا عقابا جسديا بل هي مسرح للعداوة الأبدية بينه وبين الشيطان، وهي عداوة ذات أبعاد نفسية خالصة إذ نشأت من كبرياء الشيطان وندم الإنسان.

هوامش:


*  رياض بن يوسف. riadhbenyoucef@yahoo.fr


[1] تنظر مؤلفاته الآتية:
رسالته للدكتوراه الضخمة والممتازة  Approche Sémio-Linguistique de la notion de point de vue .Université de Metz 1996
وهي مصورة ومتاحة للتحميل على الرابط الآتي:
http://docnum.univ-lorraine.fr/public/UPV-M/Theses/1996/Rabatel.Alain.LMZ965.pdf
وهذه الرسالة شديدة الثراء وفيها نقد عميق لمصطلح التبئير من منطلق لساني، وهو نقد مفصل لجميع النظريات السابقة لجينيت والتي جاءت بعده بالإضافة إلى نقد نظرية جينيت نفسها.
Argumenter en racontant, De Boeck, Bruxelles, premiere edition 2004
ويحلل في هذا الكتاب وجهة النظر في 16 نصا أو مقطعا سرديا من منظور تداولي حجاجي.
La construction textuelle du point de vue, Delachaux et niestlé, paris,1998
وهو مثل سابقه وفيه يحلل مقاطع سردية عديدة. 
ومن أبرز مقالاته في نقد مصطلح التبئير:
L'introuvable focalisation externe, Littérature, No. 107,1997. pp 88-113
[2] Alfred Ernout et Alfred Meillet : Dictionnaire Etymologique de la langue latine .Paris Klincksieck.2001. P 243
[3] E.Lettré : Dictionnaire de la langue française .Tome deuxieme. Librairie hachette et cie. 1874.P1707
[4] Salvador Gutierrez Ordonez : Focalisation , thématisation, topicalisation .in La focalisation dans les langues travaux reunis par Hélène et André Wlodarczyk . L’Harmattan 2006. P 16
إمالة كلمة تبئيرها هكذا وردت في الأصل
[5] ابن منظور لسان العرب -  دار المعارف- القاهرة .  د ت .ج 3. ص 199
[6] الخليل بن أحمد الفراهيدي كتاب العين مرتبا على حروف المعجم .ترتيب و تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي –دار الكتب العلمية بيروت-لبنان –ط1- 2003م- 1424ه  ج 1 ص 109.
[7] مجمع اللغة العربية:المعجم الوسيط- مكتبة الشروق الدولية- ط4- 1425 ه- 2004 م   ص 36.
[8] لطيف زيتوني، معجم مصطلحات نقد الرواية، مكتبة لبنان، دار النهار، بيروت، ط1، 2002، ص40.
[9] محمد القاضي (إشراف)، معجم السرديات، الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، تونس، لبنان، الجزائر، مصر، المغرب، ط1، 2010، ص65.
[10] والاس مارتن، نظريات السرد الحديثة . تر:حياة جاسم محمد. المجلس الأعلى للثقافة.القاهرة.1998 . ص 175.
[11] المرجع نفسه 172.
[12] جيرار جينيت ، خطاب الحكاية . تر محمد معتصم، عبد الجليل الأزدي، عمر الحلي .منشورات الاختلاف.الجزائر . ط 3. 2000.    والكلام المستشهد به من تصدير للترجمة الانجليزية بقلم جوناثان كالر (ترجمة محمد معتصم)، ص 23 .
[13] المرجع نفسه ص 201.
[14] المرجع نفسه و الصفحة نفسها.
[15] المرجع نفسه ص ص 201-202.
[16] المرجع نفسه ص 202.
[17] المرجع نفسه ص 203.
[18] ينظر مثلا لا حصرا:
 Alain Rabatel , L'introuvable focalisation externe: De la subordination de la vision
 externe au point de vue du personnage ou au point de vue du narrateur, Littérature, No. 107, RÉCITS ANTÉRIEURS (OCTOBRE 1997), pp 88-89
[19] ينظر: جيرار جينيت، عودة إلى خطاب الحكاية، تر محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 2000، ص ص 95-96.
[20]  Mieke Bal, Voix/voie narrative : la voix métaphorée, Cahiers de Narratologie, n° 10 (1), 2001, pp 9-10.
[21] Mieke Bal, Narration et focalisation : pour une théorie des instances du récit , Poétique, n  29, p119.

[22] Ibid, pp 119-120.
ملاحظة: ما هو بين قوسين في الشاهدين من عملنا وأضفناه للتوضيح.
[23] Pierre Vitoux, Le jeu de la focalisation , Poétique, no 51,1982, pp 359-361.
ملاحظة: ما بين قوسين أضفناه للتوضيح.
*  اختبأا: هكذا وردت في المتن (ص 4) وهو خطأ إملائي واضح وتصويبه: اختبآ
[24] الكتاب المقدس (العهد القديم)، الترجمة العربية المشتركة،الإصدار الثاني، الطبعة الرابعة 1995 جمعية الكتاب المقدس، لبنان، ص ص 3-5، وهذه الترجمة وضعتها لجنة مؤلفة من علماء كتابيين ولاهوتيين ينتمون إلى مختلف الكنائس المسيحية من كاثوليكية وأثوذكسية وإنجيلية كما ورد في تقديم الترجمة، أي أنها ترجمة تجمع عليها أهم الطوائف المسيحية. وتمتاز بغياب تقسيم الكتاب المقدس على أساس "الإصحاحات" والاكتفاء بالأرقام والعناوين الفرعية.
[25] الحوافز الحركية Motifs dynamiques حسب توماشيفسكي هي التي تغير الوضعية، أما الحوافز التي لا تغيرها فهي حوافز قارة Motifs statiques . ينظر:
B.Tomachevski: Thématique. p 272. in Théorie de la littérature- textes des formalistes russes- réunis, présentés et traduits par Tzvetan Todorov-éditions du SEUIL 1965.