Nombre total de pages vues

dimanche 3 avril 2016


مقالة منشورة في العدد 537 من مجلة الموقف الأدبي السورية  كانون الثاني2016
ملاحظة:  أسقطت المجلة من مقالي المنشور جميع الهوامش "الإحالات" 
الشعر والنسق الأنطولوجي
د.رياض بن يوسف *
      كثيرا ما طُرح سؤال العلاقة الإشكالية بين الشعر و الفلسفة، و تحديدا بين الشعر و الأنطولوجيا (أو الأيْسيَّة) بوصفها فرعا أساسيا من الفلسفة ((ينظر عقلا في الكون من حيث هو كون)) ([1]) أو في الوجود من حيث هو وجود. فما طبيعة هذه العلاقة؟
   هل الشعر نقيض للأنطولوجيا كما تقرر ذلك في الخطاب الأفلاطوني الذي عده محاكاة ثانية أي محاكاة لمحاكاة؟
أم أن الشعر متماه مع الأنطولوجيا ، و ليس إلا وجهها الآخر باعتباره (( الجذر المشترك و العميق لجميع أشكال التعبير عن الفكر)) ؟ ([2])
  أم أن الشعر و الأنطولوجيا يلتقيان في انهمامهما معا بسؤال الكينونة دون أن يؤدي ذلك إلى تماهي خطابيهما المتمايزين؟
  إننا في الواقع بإزاء ثلاثة مواقف متباينة حول طبيعة العلاقة بين الشعر و الأنطولوجيا ، و لكل منها مرتكزاته و حججه و مبرراته.

1- الشعر نقيضًا للأنطولوجيا:
  
   من المعلوم أن الفلسفة الغربية قد تأسست باعتبارها نقيضا لـ"الدوكسا"، أي المعتقدات القبلية، فأزاحت من طريقها الشعر و الأسطورة و الخطاب البلاغي بوصفها خطابات غير عقلانية.    
 لقد عرّت اللغة من مجازها ساعية بذلك إلى صقلها و تسخيرها لمتطلبات البحث العقلي ، هكذا عمل "الذكاء الغربي" كما يقول جيلبر دوران Gilbert Durand على الفصل بين (( العالم و الانسان ..... بين "الأنا أفكر" و الأشياء المفكر فيها )) ([3]).
    و ربما كان أفلاطون هو أول من يُعزى إليه موقف عدائي صريح ، و مبرر عقليا ، من الشعر و الشعراء في جمهوريته ، حيث خصص عدة صفحات من الكتاب العاشر للبرهنة على أن الشعر مثل الرسم ، محاكاة لمحاكاة ، أي أنه محاكاة من الدرجة الثانية ، فالسرير ، كجوهر أو نموذج أولي أزلي ، يخلقه الله و النجار يقلد صنعه أي أنه يحاكي خلق الله ، و يأتي الرسام في المحل الأخير ليحاكي صنع النجار مما يجعله بعيدا عن الحقيقة بثلاث درجات . الشاعر مثل الرسام هو مجرد صانع للصورة، لظاهر الأشياء، و لكن أفلاطون يضيف إلى ذلك نقدا لوظيفة الشعر فهو سواء أكان مأساة أم ملهاة إنما يحفز الجانب الأدنى من النفس، أي الانفعالي، فيدفعنا إلى الحزن و البكاء ، أو الضحك ، بدلا من جانبها الأسمى أي العقل الذي يدفعنا إلى الهدوء و الحكمة، لهذا لا يتردد في طرد الشعراء من جمهوريته التي تحكمها قوانين العقل و إن استبقى الشعراء الذين يمجدون الآلهة و عظماء الرجال ([4] )
    و لا يمكننا أن نقول أن اعتراض أفلاطون على الشعر و الفنون كان اعتراضا أخلاقيا ، فمن الواضح أنه اعتراض بُني على أساس فلسفي أنطولوجي يعتبر مهمة الشعر و سائر الفنون تضليلية ، و لا يمكن فهم هذا الموقف إلا في السياق العام لنظرية أفلاطون الفلسفية التي كانت ردا على (( آراء السفسطائيين الذين نظروا للكون نظرة خاصة حيث اعتبروا أن كل شيء في الوجود نسبي Relative يعتمد في الدرجة الأولى على حكم الفرد و تقييمه و منظوره الخاص ، و بالتالي لا توجد حقيقة واحدة يتفق عليها كل الناس )).([5]) بينما نظر أفلاطون إلى الحقيقة الفلسفية بوصفها يقينية و مطلقة ، بعيدة عن عالم الظواهر التي قد نراها جميلة أو خيرِّة لكنها ليست كذلك (( إلا من جهة معينة و لوقت معين أما المطلق الدائم الحقيقي فهو مثالها العقلي الجمال في ذاته و الخير في ذاته )). ([6])
    إن موقف أفلاطون هذا قد استتبع كثيرا من التأويلات التي انطلقت من إشكال أساسي يمكن صوغه بالشكل الآتي: كيف لفيلسوف يحتل الشعر في حياته الخاصة و في فلسفته نفسها أهمية كبرى أن يطرد الشعراء من جمهوريته النظرية؟!
   لقد ورث أفلاطون من جهة أمه موهبة أدبية فذة فنظم في شبابه المدح و الرثاء و الملحمة و المأساة ، فقد كان تكوينه يعدُّه ليصبح شاعرا لكنه ، بعد أن تعرف على سقراط ، أحرق "تراجيدياته" و أصبح فيلسوفا.([7])
و قد دفعه و ضعه الجديد إلى الانقلاب على هواه القديم فألف محاورة " إيون" التي استبطنت سخرية مكتومة من الشاعر إذ عده فاقدا للعقل ، فلا يمكن للشاعر ، و هو الكائن الملهم الموحى إليه ، إلا أن يكون مسلوب العقل لأنه لا يغني بفن بل بقوة إلهية و لذلك يسلب الله العقل من الشعراء و يستخدمهم كممثليه .([8] )
   لكن موقف أفلاطون هذا ليس بالبساطة التي يبدو عليها، و لم يكن أبدا حاسما، لقد ظل يستبطن روحه الشاعرة حتى و هو يؤلف محاوراته، و ظل الشعر محايثا لخطابه الفلسفي حتى عد بعض الدارسين محاوراته     ((شكلا جديدا من الشعر)) ([9]) ، و كان أرسطو تلميذ أفلاطون يرى أن لغة أستاذه (( تقف في منتصف الطريق بين الفلسفة و الشعر)) ([10]).  و كان عشقه للشعر كثيرا ما يفتضح عبر تلميحاته العديدة للمأساة و الملهاة و اقتباساته منها ، و قد أقر هو نفسه بافتتانه بشعر هوميروس و أنه إذ ينفصل عنه فإنما يفعل ما يفعله العاشقان اللذان ينفصلان ، بصعوبة ، لإدراكهما عدم جدوى الحب الذي يجمعهما. ([11])  
  هل كان أفلاطون ضحية للفصام " الشيزوفرينيا" حيث يتصارع داخله أفلاطونان : الشاعر و الفيلسوف ؟ ربما ذهب بعض الباحثين إلى مثل هذا الرأي ([12]) ، لكن هناك من يرفض هذا الرأي لأنه ، رغم جاذبيته الظاهرة ، ليس إلا هروبا من مواجهة المشكلة بردها إلى "لاشعور" أفلاطون ، فالتفسير الأمثل هو أن أفلاطون لم يناقض نفسه أبدا لأنه حين حذر من خطر الشعر على نفوس العامة ، استثنى فئة صغيرة لا يصل إليها تأثير ذلك الشعر و هي فئة الفلاسفة ، و أفلاطون منهم بالطبع ، لأن الفلاسفة محصنون من خطر الشعر بقوة عقولهم فبإمكانهم الاستمتاع بالشعر دون أن يفقدوا التحكم في انفعالاتهم أو يختل توازنهم العقلي ([13])
   و ما نستخلصه من كل هذا هو أن أفلاطون الفيلسوف ، الناضج ، كان يستبطن تجربة أفلاطون الشاعر ، الفتي ، المتمرس بالمأساة و غيرها مستحضرا التجربة الشعرية بوصفها عقبة أمام الوعي الأنطولوجي و لذلك ارتد عنها مختارا لا محتارا !
 و إن ظلت التجربة الشعرية حاضرة عنده ، فحضورها ليس إلا من قبيل الضيافة في كنف نسق فلسفي صارم  لأن البرهان المنطقي ، لا الحدس الشعري ، هو الذي يسكن البنية العميقة لمحاوراته. 
   أما أرسطو ، تلميذ أفلاطون ، فقد خص الشعر بكتاب كامل هو " فن الشعر" يعده الدارسون أقدم ما أُلف في النقد الأدبي ، لكنه  خالف أستاذه جملة و تفصيلا فرغم أنه تبنى مصطلح المحاكاة إلا أنه أفرغه من محتواه الأفلاطوني حيث غدت المحاكاة عنده غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة [14] ، و لم تعد محاكاة من الدرجة الثانية لعالم المثل الذي لم يؤمن به أرسطو قط * و لكنها محاكاة للأفعال فالشعراء يحاكون (( إما من هم أفضل منا ، أو أسوأ ، أو مساوون لنا ، شأنهم شأن الرسامين )) [15] ،  كما أن المحاكاة عند أرسطو ليست استنساخا شائها للطبيعة أو الحقيقة و لكنها خلق آخر يعيد إنتاج الحقيقة و العالم ، فالفن في محاكاته يكشف ما ينقص الطبيعة مبتكرا بذلك عالما يحتوي على حقيقة مغايرة لما نعرفه .[16]
لكن أرسطو الفيلسوف ، وهو يتناول الشعر مُنَظِّرا و ناقدا ، لا يضعه في مواجهة صريحة مع الفلسفة مما يدفعنا إلى محاولة استنطاق نصه الصامت.
   يذكر أرسطو سببين لنشأة الشعر أولهما المحاكاة و ثانيهما (( هو أن التعلم لذيذ لا للفلاسفة وحدهم ، بل و أيضا لسائر الناس ، و إن لم يشارك فيه هؤلاء إلا بقدر يسير))[17] . ربما عكست قولة أرسطو هذه موقفه الضمني ، غير المعلن ، من علاقة الشعر بالفلسفة ، فمن الواضح أنه يقيم حدا فاصلا بين الفلاسفة و سائر الناس دون استثناء فهؤلاء لا يشاركون في التعلم ، أي معرفة الحقيقة ، إلا بقدر يسير ، و يبدو أن هذا القدر هو حظ الشعر أيضا فهو في المنظور الأرسطي لا يمتلك البعد الأنطولوجي.
    و لم  تكن نظرة الفلاسفة المسلمين للشعر إلا امتدادا لموقفي أفلاطون و أرسطو، فالفارابي لا يرى في الشعر إلا مجرد محاكاة حيث يعرف الأقاويل الشعرية بأنها ((هي التي شأنها أن تؤلف من أشياء محاكية للأمر الذي فيه القول )) .[18]
  لقد نظر الفلاسفة المسلمون إلى الشعر بوصفه أدنى فروع المنطق ، و لذلك استبْقَوا الشعراء لمهام ثانوية لكنها ضرورية فابن سينا يرى  (( أنه في الوقت الذي يُحدث فيه البرهان – و هو أشرف الصنائع المنطقية   و أعلاها – تصديقا يقينيا بالمعارف النظرية و العملية ، و يشكل أداة من أدوات المعرفة الحقيقية ، تنفع بعض الصنائع المنطقية الأخرى في مصالح المدينة و نظام المشاركة كالخطابة و الشعر)) .([19])  
   لقد تحول الشعر عند الفلاسفة المسلمين إلى مجرد صناعة ثانوية لا يمكنها بحال أن تكون وسيلة لمعرفة الحقيقة لأنها صناعة تقوم على المحاكاة و هذا يستلزم كونه نقيضا للفلسفة التي تحتكر البرهان. و قد وصف الفارابي الأقاويل الشعرية بأنها كاذبة ، فالأقاويل عنده (( إما أن تكون صادقة لا محالة بالكل ، و إما أن تكون كاذبة لا محل بالكل .... فالصادقة بالكل لا محالة هي البرهانية......و الكاذبة بالكل لا محالة فهي الشعرية )). ([20])  
   إن هذا الموقف ليس إلا استنساخا أمينا لموقف أفلاطون ، فلم يتطرق أرسطو إلى أية مقارنة بين القولين الشعري و البرهاني على أساس الصدق و الكذب ، و ما يؤكد هذا التأثير الأفلاطوني أن الفارابي يكرر  حديث أفلاطون عن الشعر بوصفه محاكاة ثانية في رسالته عن جوامع الشعر، حيث يقول :(( ...و كذلك نحن ربمـــا لم نـعـرف زيـدا ، فـنـرى تمثاله فنعرفه بما يحاكيه لنا ، لا بنفس صورته . و ربما لم نر تمثالا له نفسه ، و لكن نرى صورة تمثاله في المرآة ، فنكون قد عرفناه بما يحاكي ما يحاكيه ، فنكون قد تباعدنا عن حقيقته برتبتين . و هذا بعينه يلحق الأقاويل المحاكية ..)) .[21]
   إن ما سبق يقودنا إلى استنتاج أن الفلاسفة المسلمين كانوا في موقفهم من الشعر أفلاطونيين أكثر من كونهم أرسطيين رغم تفاعلهم الخصب مع نظرية المحاكاة الأرسطية و كتاب أرسطو عن فن الشعر.
   لكن المسلمة الأفلاطونية حول سيادة الخطاب الفلسفي العقلاني على الخطاب الشعري المحاكي الانفعالي لم تجد الكثير من الأنصار إذ سعى بعض الفلاسفة أنفسهم إلى خلخلتها، بل و محاولة قلبها، ليصبح الخطاب الشعري نقيضا للخطاب الفلسفي، و لكن الشعر هذه المرة هو الذي يطل على الفلسفة من شرفة عالية.
و هذا هو المشروع الفكري الذي شغل الفيلسوفة و الأديبة الإسبانية ماريا ثامبرانو ، إذ أن نقطة البدء في عملها الفلسفي الهام " الفلسفة و الشعر" [22] هي دحض أطروحة أفلاطون الذي (( حاول في سياق تحريره للإنسان و إخراجه من فضاء المأساة أن يجمع كل المحتوى الإنساني و يجعله تحت سلطة العقل . لأنه ، في النهاية ، فإن الإنسان موجود بفضل العقل. )) .[23] لكن هذا العقل الفلسفي محكوم عليه بالفشل ، لأنه لا يؤكد نفسه إلا (( بالانغلاق على ذاته ، و بطبيعة الحال ، لن يكتشف شيئا آخر غير ذاته )). [24]
  لقد عجز العقل الفلسفي منذ محاولاته الأولى عن القبض على الحقيقة التي طالما تملصت من بين يديه ،   و هي عينها الحقيقة التي امتلكها الشاعر. تقول ثامبرانو :(( لقد علم الشاعر دائما ما جهله الفيلسوف ، لقد أدرك استحالة امتلاكه ذاته ، يجب أن نصبح أكبر من ذواتنا ، أن نمتلك ذواتنا انطلاقا من شيء آخر، هناك ، انطلاقا من شيء يستطيع فعلا احتواءنا )).[25]
  من الواضح هنا أن ثامبرانو تنحاز للحدس على حساب البرهان ، و للإيمان الصوفي على حساب الشك الفلسفي العاجز ، و للشعر على حساب الفلسفة. فالأنطولوجيا بوصفها عقلية ، برهانية ، استدلالية ، محكوم عليها بالفشل ، و البديل هو ما يمكن أن نسميه، استلهاما من موقف ثامبرانو ، ب: الأنطولوجيا العرفانية ، و قوامها الشعر لا الفلسفة.
 و الشعر عندها لا يمتلك الحقيقة إلا عبر حدس صوفي و لغة لا عقلانية.  و إن كان أفلاطون في محاورة إيون يسخر ، خِفيةً ، من سلبية الشاعر و جنونه المفترض بدعوى جهله ما يقول لأنه مجرد ملهم ، فإن ثامبرانو ، على الضد من أفلاطون ، ترى أنه يجب على الشاعر ((أن يتكلم دون أن يعلم ما يقول ، كما يُعاتَب عليه ، و مجده يكمن في عدم معرفته ، مما يكشف أن الكلمة التي تخرج من  فمه تتجاوز كثيرا الفهم الإنساني )).[26]
  الشعر ليس معرفة عقلانية ، ليس نسقا برهانيا سرعان ما تتداعى بنيته النظرية الجافة لتحل محلها أخرى ، إنه حدس رؤيوي ، اكتشاف للوجود في عذريته ، مراودة دائمة و انتهاك للغز الخلق ، استشراف للماهية و الكينونة ، تماس مع الزمان و المكان لا مجرد طواف بهما كما يفعل الفيلسوف الحذر !
تقول ثامبرانو :(( إن معجزة الشعر تتحقق عندما يقابل ، في لحظات حظه ، الأشياء في فرادتها و عذريتها ، في هذا العمق الأقصى ، الأشياء التي تولد ، مجددا ، من أصلها نفسه )) . [27]
 هنا تتجلى الأنطولوجيا العرفانية الصوفية الشعرية بديلا عن الأنطولوجيا العقلانية الفلسفية ، فالشعر وحده هو القادر على اكتناه ماهية الأشياء و تحقيق دهشة الاكتشاف أمام العابر و اليومي.
   لكن التناقض المفترض بين الشعر و الفلسفة عند ثامبرانو ، و قبلها عند أفلاطون و أتباعه ، ينطلق – كما يبدو- من مسلمة لا يسهل الركون إليها و هي أن الفلسفة و الشعر خطابان مكتملان ، نهائيان ، بينما يعلمنا التاريخ أنهما مفهومان مرتحلان عبر الزمان و المكان فليس ثمة من صيغة معطاة و جامدة لكل منهما ، إذ شهدا عبر العصور و الأمكنة كثيرا من الخلخلة و المساءلة و التحوير و التثوير لدرجة لم يعد معها من الممكن الحديث عن الفلسفة أو الشعر ، بل عن فلسفة معينة و شعر معين.
 ألم تتعرض فلسفة أفلاطون نفسها لقلب و دحض مسلماتها حتى نشأ على أنقاضها تيار سمي ب :"ضد الأفلاطونية" Anti platonisme ؟ *   ، هذا التيار الذي بدأ مع أرسطو تلميذ أفلاطون نفسه ، و لكنه بلغ ذروته مع الفيلسوف و الشاعر فريديريك نيتشه في القرن التاسع عشر .

2- الشعر متماهيا مع الأنطولوجيا:
   يتوضَّع نيتشه في موقع فريد بالنسبة لتاريخ الفلسفة مما جعل من تصنيفه قضية إشكالية ، فهل هو فيلسوف في ثوب شاعر أم شاعر في ثوب فيلسوف؟!
    الواقع أن نيتشه حسب وصف " فرانتز روزنتسفايغ " هو شاعر و قديس و فيلسوف في الوقت نفسه . يقول روزنتسفايغ :(( ... لقد تحدث الشعراء منذ الأزل عن حياتهم و حياة أرواحهم ، بينما عاش القديسون منذ الأزل حياتهم و حياة أرواحهم ، و لكن ، مرة أخرى ، ليس الفلاسفة . و الحال هذه ، ها هو ذا رجل عرف حياته و حياة روحه كشاعر ، و أطاع صوتها كقديس ، و كان مع ذلك فيلسوفا )) .[28]
   يمثل نيتشه إذن لحظة مهمة جدا و حاسمة في تاريخ العلاقة بين الشعر و الأنطولوجيا يمكننا أن نقول أنها لحظة التماهي ، فالشعر – و معه سائر الفنون- أصبح عند نيتشه  سلاحا في يد الفيلسوف لاكتناه حقيقة الكينونة بوصفها ظاهرة لا غيبا ، فالكينونة و العالم (( ليس لهما من تبرير إلا بما هما ظاهرتان جماليتان)) .[29]
هكذا ندرك أن فلسفة نيتشه إنما هي ثورة على الميتافيزيقا الغربية التي آمنت بالحقيقة الواحدة ، الغائبة ، و أهملت عالم الظواهر مقصية بذلك الشعر و الفنون من دائرة اهتمامها أو مدحرجة لهما إلى أدنى مكانة.
لقد تجلى موقف نيتشه العدائي من الأنطولوجيا الغربية في باكورة أعماله" مولد التراجيديا" حيث انتقد الفلسفة السقراطية بوصفها نظرية ميتافيزيقية متفائلة ، و اعتبر "سقراط" نموذجا للإنسان النظري الذي تخلى عن التشاؤم التراجيدي لصالح التفاؤل النظري و آمن بالقدرة على اكتناه طبيعة الأشياء ، و مَنَح المعرفة فضيلة الترياق و اعتبر الخطأ هو الشر في ذاته. [30]
 إن الفلسفة السقراطية حسب نيتشه احتقرت الغريزة مفضلة عليها العقل ، أي أنها أنكرت الحكمة ، بالضبط ، في الموضع الذي تكمن فيه مملكتها الحقيقية.[31]  أما الحقيقة الغيبية الساكنة التي طالما طاردها الفلاسفة منذ سقراط  فلا وجود لها ، فها هو ذا العالم قائم أمامنا بصيرورته و لا ثباته ، و هو الذي ينبغي علينا أن نلتفت إليه.             فهذا العالم  ((  تتكون واقعيته الوحيدة من التخيلات التي تنتجها أشكال الحياة لصالح تطورها الحيوي المؤقت دائما )). [32]
     إذن ، لقد أصبح الخيال عند نيتشه هو البديل من التصور المنطقي المجرد ، و أصبحت الصيرورة ،  و التعدد ، و المؤقت هي بدائل الحقيقة الأنطولوجية الساكنة منذ الأزل هناك ، وحيدة و مجهولة ! تلك الحقيقة المتمنعة التي طالما راودتها الفلسفة اليونانية و سليلتها الأوروبية دون جدوى ، لذلك كان المشروع الفلسفي لنيتشه هو تقويض هذا الميراث الميتافيزيقي بداية من سقراط و تلميذه أفلاطون. و قد انحاز - في هذا المشروع التقويضي -  للشعر        و الفنون (الموسيقى خاصة) بوصفها بدائل للتفكير الميتافيزيقي السلبي لأن الفكر الإيجابي فعلا حسب نيتشه         (( عليه أن يتجاوز الأطر الجامدة للفلسفة و يلجأ إلى أشكال أخرى على رأسها القول الشعري و الفن)).[33]
   لقد استعاد نيتشه في سياق نقده للفلسفة الميتافيزيقية الإغريقية و موقفها من الشعر ، حديث أفلاطون عن الشعراء و طرده لهم من جمهوريته لكنه عدَّه ضحية لسقراط بعد لقائه به إذ أن أفلاطون السقراطي تنكر لأفلاطون الشاعر الشاب و أحرق أشعاره ، لكنه – حسب نيتشه- لم يستطع التخلص من شعريته فقد اضطر إلى ابتكار نوع من الفن له قرابة إلى الأشكال الموجودة التي رفضها، [34] فمحاورات أفلاطون لم تكن – حسب نيتشه- إلا نمطا من الفن الهجين ، لأن هذا النمط ينتج عن (( غياب الشكل و الأسلوب الناتج عن مزج كل الأساليب            و الأشكال الممكنة )).[35]  و هذه الأشكال هي : (( النثر و الشعر ، السرد و الغنائية ، و المأساة لأنه (أفلاطون) حطم القانون القديم القاسي لوحدة الشكل و الأسلوب و اللغة )).[36]
إن أفلاطون إذن ضد نفسه  أو ضد الأفلاطونية ، و لهذا ينحاز نيتشه إلى أفلاطون مهاجما الأفلاطونية بأقصى قوته باعتبارها (( تجسيدا للحياة و الحضارة الأوروبيتين ، و وجها للحقيقة الأوروبية نفسها))[37]  ، فهذه الحضارة وريثة الميتافيزيقا الإغريقية التي انتقلت إليها من سقراط عبر أفلاطون العقلاني ، أما أفلاطون الآخر ، الشاعر الفنان فوريثه الحقيقي هو نيتشه نفسه ، و هو الذي وصفه بأنه (( أفضل ما أنجبته العصور القديمة)) [38] ، و تتجلى تركة أفلاطون عند نيتشه في أنماط التعبير البديلة التي لجأ إليها و تتمثل هذه الأنماط في الشذرات و جوامع الكلم ، أي الكتابة المجازية المتكئة على البلاغة ، هذه الأخيرة تصبح عند نيتشه  (( أداة فلسفية لانتقاد الحضارة)) .[39] و يبدو لنا نيتشه هنا ، و هو يرتدي ثوب البلاغة مثل السفسطائي الذي ناصبه أفلاطون العقلاني العداء ، فكأن نيتشه يتعمد هذا التنكر معاندا الكبرياء العقلي لتلميذ سقراط!
و تبدو لنا فكرة العود الأبدي المشهورة [40]عند نيتشه قلبا جذريا لفكرة عالم المثل عند أفلاطون فمقابل عالم المثل الجوهري و الغيبي و الثابت ، يمجد نيتشه ، من خلال العود الأبدي ، العرضي و الظاهر و المتحول إلى ما لا نهاية.  إن نيتشه هنا يؤسس أنطولوجيا الظاهر بديلا لأنطولوجيا الماوراء ، فهو ، إذ يؤكد استحالة معرفة الشيئ في ذاته ، ينفي (( جدوى أن ننشغل أي انشغال بهذه المعرفة أو هذا الشبح المجرد من الجسم)) .[41]
 فالمنطق ينتهي بأن (( يتلوى على ذاته ليعض أخيرا ذيله... هنا يولد نوع جديد من المعرفة ، المعرفة التراجيدية ، التي تطالب ، لتصبح محتملة ، بعلاج و حماية الفن )).[42]
  لكن كيف تكون المعرفة التراجيدية ، الشعرية و الفنية ممكنة؟
  يجب حسب نيتشه أن تتحرر هذه المعرفة نفسها من الميراث الأنطولوجي الميتافيزيقي ، و هذا الطرح النيتشوي يتجلى بوضوح في كتابه " إنسان مفرط في إنسانيته" و هو يمثل المنعرج النقدي لفلسفته حول الفن ، ففي الفصل الرابع المعنون ب"روح الفنانين و الكتاب" يدين النزعة الميتافيزيقية التي تتجلى في بعض الأعمال الفنية كالسمفونية التاسعة لبيتهوفن التي تظهر فيها نزعة الخلود...لقد ظل الفنان طفلا غير ناضج ، كما يقول نيتشه ، و بدلا من أن يضع المعتقدات القديمة موضع تساؤل فإنه ينوِّم وعي الإنسان المعاصر مقدما له مسكنات خادعة . [43]
     نخلص مما سبق إلى أن ثورة نيتشه كانت مزدوجة : ثورة على الفلسفة التقليدية و ثورة على الفنون التقليدية – و الشعر ضمنها- بوصفها جميعا حاملة للوهم الميتافيزيقي ، و الهم الأنطولوجي الموروث عن الإغريق ، و لهذا انشغل بتشييد فلسفة شعرية بديلة.
      و إذا كان التخيل الشعري ، و الكتابة المفتتة ، البليغة ، و الشعرية عند نيتشه هي بدائل المنطق العقلي ،      و التأليف الفلسفي الصارم ، فإن ما قدمه ظل مقترنا بلحظته التاريخية ولم يتكرر ، فاللحظة النيتشوية أي لحظة المماهاة بين الشعر و الأنطولوجيا لم تثمر نظائرها ، و لكنها أثمرت جدلا شديد الخصوبة حول العلاقة بينهما ، و هو الجدل الذي تجاوز الطرحين السابقين ليعد العلاقة بينهما علاقة حوار مخصبٍ لكليهما ، و من أبرز مرتادي هذا الأفق الحواري الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر .

3- الشعر محاورا للأنطولوجيا:
    لا يمكن فهم طبيعة الحوار الفلسفي أو على الأصح الأنطولوجي الذي أقامه مارتن هايدغر مع الشعر إلا من خلال مدخل موجز لفلسفته و صراعه مع الميتافيزيقا الغربية بوصفها تغييبا أزليا لسؤال الكينونة.
     لقد تمثل المشروع الفلسفي لهايدغر في نقض الأنطولوجيا الغربية التي أهملت السؤال عن الكينونة* فيما هي تستفهم عن الكائن  ، فكل التفكير الغربي (( و تحديدا بعد هيراقليطس و حتى أيامنا تميز بنسيان الكينونة ...فالفكر ارتبط بالكائن ، و لم يتجاوز كينونة الكائن ....أما الكينونة نفسها ، بعيدا عن كينونة الكائن ، فقد سقطت في النسيان)) .[44] هذه الكينونة لا تظهر إلا في الكائن و به ، فهي في الأصل حضور خفي (( حضور كأنه لم يكن ....و لكن ، لهذا، فميزة الإنسان هي أن يعمل على انبثاق هذا الحضور في العالم. الكينونة لا يمكن أن يظهرها إلا الإنسان)) .[45]
  إن هايدغر يدعو إلى معرفة قبلية للكينونة ، معرفة لا تخضع للاستدلال و البرهنة ، و لا تقع في فخ المطابقة بين الفكر و الواقع بل هي معرفة (( سابقة كل تبشير ، بل و كل تصور)) .[46]
    هذه المعرفة القبلية يتحمل كبر ضياعها أفلاطون و معه الفكر الغربي برمته ، إذ تشَكَّلَ ، منذ سقراط و تلميذه أفلاطون حسب ما يقول هايدغر (( على أرضية المبادئ اليونانية لتأويل الكينونة معتقد ليس فقط هو يعلن السؤال عن الكينونة شيئا من نافلة القول بل أكثر من ذلك هو يصادق على التفويت فيه. يقال: إن الكينونة هي التصور الأعم و الأفرغ و بما هو كذلك هو يستعصي على كل محاولة للتعريف)).[47]
  ثمة إذن أحكام مسبقة في صلب الأنطولوجيا التقليدية هي التي أسقطت سؤال الكينونة في النسيان وهذه الأحكام هي:
1-              إن الكينونة هي التصور الأكثر كلية.
2-              إن تصور الكينونة إنما هو غير قابل للتعريف.
3-              إن الكينونة هي التصور المفهوم- بنفسه. [48]
 و يعمل هايدغر على دحض هذه الأحكام باعتبار الكينونة أولا التصور الأشد إبهاما ، و ثانيا باعتبار أن عدم قابلية الكينونة للتعريف لا تعفي من السؤال عن معناها ، و ثالثا لأن التصور المفهوم بنفسه أو المفهومية الوسطية من قبيل " الشمس [هي] جميلة ، و أنا [ كائن] مبتهج ، لا تبرهن إلا على عدم المفهومية. [49]
  و لفك الالتباس بين الكائن و الكينونة حسب هايدغر لا بد من التفريق بينهما فالكينونة ليست هي الكائن (( إن الكينونة من حيث هي المسؤول عنه  إنما تتطلب بذلك ضربا خاصا من الإبانة ، يختلف في ماهيته عن كشف الغطاء عن الكائن)). [50]
و الذي يمتلك القدرة على السؤال عن الكينونة هو الكائن نفسه أو الدازاين ، فهو (( السائل عن معنى الكينونة و هو في الوقت نفسه " المــُــسْتجوَب" في هذا السؤال عن معنى الكينونة )). [51]
    تصبح مهمة الأنطولوجيا إذن ، حسب هايدغر ، هي توضيح معنى الكينونة بوصفه مهمتها الأساسية  وكل أنطولوجيا تهمل هذا السؤال (( إنما تبقى في أساسها عمياء و تبقى انحرافا عن مقصدها الأخص )) .[52]
   و يلفتنا استرجاع هايدغر لتجربة الفلاسفة السابقين على سقراط كبارميندس و طاليس و أنكساغوراس،  و هو إنما يفعل ذلك (( ليجد الآثار الأولى لأنطولوجيا أصيلة)) .[53] لقد فهم الإغريق الأوائل الحقيقة أو ال Aletheia كلا تحجب أو (( كلا خفاء للكائن و اعتبروها سمة أساسية له لا خاصية تنضاف إليه أحيانا ))[54] . لقد نجحوا في (( تجربة الكينونة الحقيقية التي تنبثق في الوقت نفسه مع الحقيقة الحقيقية )) .[55] و ما يبحث عنه هايدغر عند الإغريق الأوائل ليس استعادة تراثهم لإحيائه و لكنه يريد العودة (( إلى نبع الاندهاش الذي جعلهم يسألون لأول مرة )) [56] ، و لكنهم في الواقع لم يسألوا عن معنى الكينونة بل استقبلوه بدهشة ، و فهموا الحقيقة كأليثيا أي ك "لا تحجب " ، و لكنهم لم يطرحوا سؤال الكينونة ، و لذلك سعى هايدغر إلى طرح هذا السؤال الغائب متجاوزا في الوقت نفسه صمت الإغريق الأوائل عن الحقيقة و تأويل أفلاطون الذي فهم الحقيقة (( كصواب للرؤية                و التفكير)). [57] و في مسعاه التجاوزي يقترح هايدغر ما يمكن أن نسميه أنطولوجيا الدازاين.
  إن تحليل الدازاين أو الموجود-هناك هو نقطة البدء في تحليل هايدغر للكينونة و الزمان .
     الدازاين يتميز بالوجود-في العالم ، أي أنه على علاقة بالموجودات الأخرى ، بالأدوات التي تتجلى علاقته بها من خلال الهم أو الانشغال ، و بالموجودات-هناك الأخرى التي تتجلى علاقته بها من خلال الاهتمام أو التعاطف.[58] و ميزة كينونة الدازاين أنها كينونة باتجاه الموت ، فهي لا تستكمل نقصها إلا به و هذا ما يفسر ظاهرة القلق ، قلق الموجود-هناك من الموت بوصفه الامكانية النهائية للواقع الإنساني . و هذا القلق يختلف عن الخوف لأن التهديد في حالة القلق لا يكون محددا و واضحا ،أما منبع قلق الموجود-هناك فهو الموت الماثل في كل شيئ بوصفه شرطا أساسيا لتحقق الكينونة نفسها ، و هو يهرب منه بالانغمار في العالم و اللجوء إلى كيان الناس ، هذا الهروب يسميه هايدغر بالسقوط ، و هو سقوط في الثرثرة اليومية و معتقدات الناس و متطلبات الحياة العادية. إن الموجود- هناك بهذا الهروب يعفي نفسه من الاهتمام بموته هو ، و يسقط في كينونة زائفة.
    أما الكينونة الحقة فلا تكون إلا بالانسحاب من عالم الناس و أساسها هو الوعي بوصفه استجابة لنداء الكينونة الخفي. إن ما ينادي الموجود -هناك هو الهم الذي يتملكه  وقد أُلقِيَ به في هذا العالم إلقاءً جاهلا مصيره ، و هذا النداء ، بغير لغة متواضع عليها ، تتحقق الاستجابة له من خلال إلقاء الذات إلى الأمام لمواجهة مصيرها المحتوم ، و هذا ما يسميه هايدغر بالتصميم ، إنه إخلاص الكينونة لذاتها و الحرية باتجاه الموت.
القلق إذن يسمح لنا باستنطاق الكينونة و يحررنا من سلطة اليومي و يبدد أوهام الواقع ليسلمنا إلى ذواتنا في عرائها أمام الموت و هذا ما يجعل منه نعمة لا نقمة ! [59]
      إن تحليل الكينونة عبر الدازاين هو الذي قاد هايدغر إلى الفن و الشعر ، و يتمثل المنعرج الذي يشهد على هذا الانتقال في دراسته عن "أصل العمل الفني" ، ففي هذه الدراسة يمنح هايدغر العمل الفني قيمة كبرى و يسند إليه دورا أنطولوجيا كبيرا لم يكن يقر له به أبدا في مرحلته السابقة أي مرحلة "الكينونة والزمان".[60]
  فمن "الكينونة و الزمان" إلى "أصل العمل الفني" غير السؤال عن الكينونة مركزه فلم يعد الدازاين (( هو الذي يطرح السؤال أو يتخذ مبادرة طرحه ، إنه ذاك الذي تناديه الكينونة نفسها بوصفها سؤالا ، الدازاين هو الذي يجيب عن نداء حقيقة الكائن . لقد ضيع الدازاين المبادرة، لم يعد هو الذي يطرح السؤال)).[61]
لقد أصبح معرضا في عرائه لاستقبال سؤال الكينونة ، و نداءها الخفي.
 هذا النداء يعلم الدازاين تجربة الانصات ، فالإنصات مقدَّمٌ على النظر ، و الأذن مقدَّمة على العين ، لأن الأذن إذا كانت " تقود إلينا فإن النظرة تحملنا خارج ذواتنا . الإنصات استقبال ، إنه الوضع الذي يؤهلنا للحكمة .......إذا أنصتنا ، إذا تحولنا إلى حاسة سمع ، فالحقيقة تمنح نفسها لنا )).[62]
   و تجد تجربة الإنصات تمثُّلها الأسمى في الشعر ، فهو ليس لفظا و وزنا و قافية ، و ليس لعبا باللغة، و لكنه قصيدة الصمت أو هو (( قول ما لا يُسْمع ، ما لا يمنح نفسه إلا محتجبا ، ما لا يسمح لنا بسماعه إلا إذا تخلصنا من تشييئ اللغة. الانصات يعني الاستقبال ........يعني الضيافة التي نمنحها بلا سقف )).[63]
     الشاعر إذن لا يقول بقدر ما ينصت للوحي و يستضيفه بلا سقف أو فلنقل يستضيفه تحت سقف القصيدة ، إنه يستقبل نداء الكينونة ليحمله إلى الناس ، و هذا النداء هو في- قراءة هايدغر لهولدرلين خاصة - ما تبقى من آثار الآلهة في زمن البؤس ، فمنذ ترك الحلفاء الثلاثة هيراقليس و ديونيزوس و المسيح العالم بدأ ليل العالم يتجه إلى منتصفه ، و لم يفقد العالم آلهته فقط بل فقد بريق الألوهية نفسه و سقط في الهوة.[64]  هكذا يصبح الشعر استعادة لزمن الآلهة ، تسمية لهذا الغياب ، فالشاعر هو وحده من يستطيع اقتفاء أثر الآلهة الراحلين ، و هذا الأثر المقدس هو عنصر الأثير .فأن تكون شاعرا في زمن البؤس معناه أن تنتبه لآثار الآلهة الراحلين ، لأثيرهم ، و لهذا فالشاعر في زمن ليل العالم يقول المقدس .[65]
   لكن غياب الاله عند هولدرلين يكتسب تأويلا جديدا عند هايدغر فهو يغدو غياب الكينونة و سؤالها ، فما يختفي في لفظ المقدس عند هولدرلين هو ، عند هايدغر ،  أسماء أخرى كالأليثيا و و الفيزيس... إنها أسماء لحقيقة الممتنع عن كل تحديد و حصر ، أو أسماء لما لا اسم له .[66]
    الشعر إذن تسمية لا للآلهة تحديدا ، بل للكينونة ، و هذا يعني أنه تأسيس لها بواسطة الكلام ، فمهمة الشاعر في الحقيقة ليست مجرد (( تسمية شيء معروف بل يتخطى ذلك إلى الإفصاح عما لم تسبق تسميته )) .[67] أي تسمية الكينونة عن طريق اللغة . لكن هذه اللغة ليست لغة الدال و المدلول في علاقتهما القائمة على المواضعة الاجتماعية ، ليست لغة الثرثرة اليومية و لكنها لغة البدء و التكشف ،  لغة الإيرايغينيس Ereignis و هي كلمة ألمانية تم نحتها (( من فعل إيرايغنن الذي يعني فعل الإبصار و المعاينة )) [68].
   لقد فقدت اللغة بفعل سطوة الميتافيزيقا قدرتها على التسمية و أصبحت مجرد إحالة على معان تم تحديدها سلفا ، و لن ينقذها من هذا الضياع إلا الشعر الذي (( يظهر ما يظل مختفيا في اللغة العادية ، أي ما يقتصر الناس على استعماله كأداة للتخاطب.كل شعر يقول جوهره و في نفس الوقت الجوهر الكشاف للغة الذي هو القصيدة الأصلية )).[69]
  اللغة العادية لا تستطيع إذن استدعاء الحقيقة ، لأن " الأليثيا " لا يكشف عنها المنطق الصارم المتخفي في لغة الفلاسفة و لا المعنى المبتذل المدسوس في لغة الكلام اليومي ، بل هو الشعر بوصفه (( التسمية التأسيسية للكائن و لجوهر كل الأشياء ..إن الشعر هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة)) .[70]
هذه اللغة الممكنة ، هي لغة الشعر بوصفها لغة إظهار لما تم حجبه ، فالشعر وحده هو من يستطيع أن (( يلمس أرض اللغة ، و يظهر اللغة كما لو أنها أرض ، أو قاعدة )).[71] فاللغة هي محل الإقامة الحقيقي للكائن ، و قد تعودنا على الإقامة في الوهم الموروث ، في عالم الناس المسكون بالضجيج و الصخب و عنف الآلة.  الشعر هو الذي ينقذنا بلغة الحلم ، أي بما هو ضد الواقع ، من هذا السبات "الميتافيزيقي" و يجعلنا نقيم في اللغة/ القصيدة بوصفها المسكن الحقيقي للدازاين. إذن ، لا يمكننا أن نقيم في الكينونة إلا شعريا.
خلاصة:
      نلاحظ من خلال استقرائنا الموجز للعلاقة التاريخية بين الشعر و الأنطولوجيا أنها موسومة ، في بعض أبرز محطاتها ، بالتوتر الذي تكشف عنه مواقف متباينة حد التناقض.  
فمنذ اللحظة الأفلاطونية التي جاهرت بالموقف، العدائي من الشعر بوصفه نقيضا للخطاب الفلسفي و عقبة أمام " الوعي الأنطولوجي" لم يتوقف السؤال الاشكالي عن وضع الشعر بوصفه "خطابا لا عقلانيا" إزاء الخطاب الفلسفي الذي ظل يدعي احتكار الحقيقة و " أورغانونها " .
    لكن الموقف الأفلاطوني تعرض لقلب مسلماته ، مرة في سياق تأكيد التناقض المفترض بين الشعر و الأنطولوجيا العقلانية مع الانتصار للشعر باعتباره المنفذ الحقيقي للعرفان لا المعرفة المتعقلنة " ماريا ثامبرانو" ، و مرة أخرى في سياق المماهاة بين الخطابين الشعري و الأنطولوجي كما حدث في اللحظة النيتشوية الفريدة.
و ثمة لحظة مضيئة في القرن العشرين هي لحظة هايدغر الذي تجاوز كل الطرح السابق ، و رغم القرابة الشديدة التي أعلنها بين الشعر و الأنطولوجيا إلا أنه لم يقع في فخ المماهاة بينهما كما حدث مع نيتشه ، بل احتفظ بمسافة واضحة بينهما ، إذ عد هذا الحوار بمثابة (( نداء لبعضهما البعض من أجل الإقامة في البين بين ...)).[72]
   يمكننا إذن أن نعد لحظة هايدغر هي لحظة ميلاد الحوار الندي بين الشعر و الأنطولوجيا ، و هو الحوار الذي تم استئنافه من طرف مفكرين و شعراء لعل من أبرزهم الشاعر الفرنسي إيف بونفوا ذو الخلفية الأنطولوجية القوية. فهو يعلن بوضوح أن حوار الشعر و الفلسفة مشروط بالابقاء على التباين بين لغتيهما اللتين لا تتداخل أمكنتهما رغم قرابتهما ، فالشعر يستطيع أن يساعد الفلسفة على مراجعة فكرتها الشديدة المحدودية عن الحقيقة  لأن ضوءه الخاص مستمد من ضوء الأرض المحسوس ، و الفلسفة تشرح للشعر أين تكمن الفخاخ التي تترصده ، و تساعده خاصة على وقاية نفسه من إغراء الخضوع للامعقول .[73]
     هكذا فقط يغدو الحوار الشعري الأنطولوجي بناء و مثمرا ، يحفظ لكل من الخطابين تميزه و فرادته ، و يسمح بالتداخل بينهما لا بالالتباس ، و باللقاء لا بالتماهي ، في سعيهما المشترك لكشف الحجاب عن لغز الكائن        و الكينونة.



*  أستاذ محاضر. كلية الآداب واللغات. جامعة قسنطينة 1. الجزائر.




[1]  André Lalande : Vocabulaire technique et critique de la philosophie volume 2.Qadrige /Puf . Paris .1997  p  714  و تنظر النسخة العربية: موسوعة لالاند الفلسفية ، تعريب : خليل أحمد خليل ، منشورات عويدات. بيروت – باريس .ط2 - 2001 .ص 911.
[2]  Jean-Claude Margolin :Philosophie et Poésie .Revue Philosophique de la France et de l'Étranger, T. 144 (1954)p. 97
Gilbert  Durand,  Science  de  l'homme  et  Tradition  (Paris:  Tête  de  Feuilles  et Sirac, 1975) 34-35.cité [3] par:Patrick Laude: Le poète à sa fenêtre: dualisme et errance métaphysique dans la poésie française du dix-neuvième siècle -Nineteenth-Century French Studies, Vol. 19, No. 3 Spring 1991 p 354
[4]  Platon : La république .traduit par Robert Baccou .Librairie Garnier frères.Paris. 1936.  livre X . p p 353-372
[5]  عيد الدحيات : النظرية النقدية الغربية  من أفلاطون إلى بوكاشيو ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت . ط1 – 2007 . ص 30
[6]  أميرة حلمي مطر: جمهورية أفلاطون ، الهيئة المصرية للكتاب ، مكتبة الأسرة ، 1994 ، ص 33.
[7]  W. J. Verdenius: Platon et la poesie.Mnemosyne, Third Series, Vol. 12, Fasc. 2 (1944), p 120
[8]  محاورة إيون ، ضمن المحاورات الكاملة لأفلاطون ، تعريب : شوقي داود تمراز ، الأهلية للنشر و التوزيع ، بيروت ، 1994 ، المجلد الثالث ، ص 20. " "بتصرف".
Michael Erler : Entendre le vrai et passer à côté de la vérité. [9]
La poétique implicite de Platon.in :La Philosophie de Platon Tome I. SOUS LA DIRECTION DE Michel FATTAL.L'Harmattan.Paris.2001.p 56
[10]  نقلا عن أحمد عثمان : الأدب الإغريقي تراثا إنسانيا و عالميا ، ط3 ، القاهرة ، 2001 ، ص 464.
[11]  Platon : La république .op cit . p p 371-372
[12]  مثل أحمد عثمان الذي يرى أن أفلاطون ظل متأرجحا للنهاية بين هذين الجانبين (أي الشعر و الفلسفة) في عبقريته ، المرجع السابق، ص ص 461-462.
[13]  W.J.Verdinius .op .cit p p 120-128
[14]  أرسطوطاليس : فن الشعر ، مع الترجمة العربية القديمة و شروح الفارابي و ابن سينا و ابن رشد ، ترجمة عبد الرحمن بدوي ، مكتبة النهضة المصرية ، 1953 ، ص 12.
*  يقول أرسطو في كتابه الأخلاق إلى نيقوماخوس :" ما دام أن مذهب المثل قد وضعه أشخاص أعزاء علينا . و لكن لا شك في أنه سيعلم و سيُرى كواجب حقيقي من جانبنا أننا لصالح الحق ننتقد حتى آراءنا الخاصة ، خصوصا ما دمت أدعي أنني فيلسوف ، و على هذا فبين الصداقة و بين الحق ، اللذين هما كلاهما عزيز على أنفسنا ، نرى فرضا علينا أن نؤثر الحق " نقلا عن : محمد سليم سالم ، مقدمة كتاب " تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر.." لابن رشد ، القاهرة ، 1391 ه- 1971 م ،  ص 11.
[15]  أرسطوطاليس : المرجع السابق ، ص 8.
[16]  ينظر كل من عيد الدحيات ، المرجع السابق ، ص 43 ، و محمد غنيمي هلال : النقد الأدبي الحديث ، نهضة مصر ، 1997 ، ص 48
[17]  أرسطوطاليس : المرجع السابق ، ص 12 ، و تسويد العبارات من عملنا.
[18]    جوامع الشعر للفارابي ، ضمن كتاب " تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر.." سبق ذكره ، ص 173.
[19]  ابن سينا ، القياس من كتاب الشفاء ، ص 4 ، نقلا عن ألفت كمال الروبي : نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين ، دار التنوير للطباعة و النشر ، بيروت ، ط1 ، 1983 ، ص 108.
[20]  الفارابي : رسالة في قوانين صناعة الشعراء ، ضمن كتاب أرسطوطاليس : فن الشعر ، ت ، ع . بدوي ، سبق ذكره ،  ص 151.
[21]  الفارابي : جوامع الشعر ، سبق ذكره ، ص 175.
[22]  Maria Zambrano, Philosophie et poésie. Traduit de l’espagnol par Jacques Ancet. Paris : José Corti, 2003. Collection : En lisant en écrivant                                                                                                                                          
[23]  Ibid. p 43
[24]  Ibid. 61
[25]  Ibid. p 148
[26]  Ibid. p55
[27]  Ibid. 155
*  تنظر البحوث المنشورة في جزأين بإشراف مونيك ديكسو Contre Platon1: Le Platonisme dévoilé
Monique Dixsaut (Ed)J. Vrin, 1993-   
Contre Platon2: Le platonisme renversé
Monique Dixsaut(Ed)J.Vrin, 1995
[28] Cité par Reiner Wiehle : L’Antiplatonisme de Nietzsche  in Contre Platon 2: renverser Le platonisme Textes réunis par Monique Dixsaut Vrin,paris 1995  .p31                                                                                                           
[29]  محمد بن صالح : من مقدمة ترجمته لديوان نيتشه ، منشورات الجمل ، بيروت – بغداد ، ط2 ، 2009 ، ص 11.
[30]  Friedrich Nietzsche :La  naissance de la tragédie,textes établis par Colli et Montinari,trad.  Philippe Lacoue-Labarthe, Gallimard, 1977  ,p p 91-94
[31]  Ibid ,p 283
[32]  Atelier d'esthétique :Esthétique et philosophie de l'art,De Boec ,Bruxelles, Première edition,2002,p146
[33]  Ibid , p 147
[34]  Friedrich Nietzsche :La  naissance de la tragédie ,op,cit .p p 82-87
[35]  Ibid, p 283
[36]  Ibid.
[37]  Reiner Wiehle : L’Antiplatonisme de Nietzsche ,  op,cit ,p 28
[38]   Ibid , p 30
[39]  Ibid ,p 29
[40]  تتكرر فكرة العود الأبدي في عدة كتب لنيتشه و منها " هكذا تكلم زرادشت" حيث ورد على لسانه :" ...كلٌّ يذهب ، كلٌّ يعود ، إلى الأبد تدور عجلة الكائن . كلٌّ يموت ، كلٌّ يزهر من جديد ، إلى الأبد تدور سنة الكائن".
Friedrich Nietzsche : Ainsi parlait Zarathoustra .Traduction Georges –Arthur Goldschmidt , Le livre De poche ,Paris 1983 ( reimpression2010) , p 262.
[41]  Atelier d'esthétique :Esthétique et philosophie de l'art , op cit ,p147
[42]  Friedrich Nietzsche :La  naissance de la tragédie ,op,cit ,p 94
P 150[43]  Atelier d'esthétique :Esthétique et philosophie de l'art , op cit ,
و تنظر الترجمة العربية لكتاب " إنسان مفرط في إنسانيته" عن الترجمة الفرنسية بقلم محمد الناجي ، إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، بيروت ، 2002 ، ج 1 ، ص ص 95-125
*  يستعمل أغلب الدارسين العرب مصطلح الوجود مقابلا لمصطلح هايدغر Sein أو  êtreو لكنني فضلت استخدام مصطلح الكينونة الذي يقترحه فتحي المسكيني في ترجمته لمؤلف هايدغر ، لأن sein أوêtre يعني ما تعنيه كلمة "كان" في العربية. و هو أدق في التعبير عن مراد هايدغر.
[44]  J. B. LOTZ :HEIDEGGER ET L'ÊTRE .in:Archives de Philosophie, Nouvelle Série, Vol. 19, No. 2 .JANVIER 1956.p4   
[45]  R. Campbell :Sur une interprétation de Parménide par Heidegger .in :Revue Internationale de Philosophie, Vol. 5, No. 17/18 (3/4) (1951).p 391
[46]  J. B. LOTZ .op.cit. Pp 5-6
[47]  مارتن هيدغر: الكينونة و الزمان ، ترجمة فتحي المسكيني ، دار الكتاب الجديد المتحدة ، بيروت ، ط1 ، 2012 ، ص 50.
[48]  المرجع نفسه ، ص ص 50-53
[49]  المرجع نفسه ، ص ص 50-53
[50]  المرجع نفسه ، ص 55-56.
[51]  المرجع نفسه ، ص 57 ، هامش 1.
[52]  المرجع نفسه ، ص 62.
.op.cit .p 390[53]  R. Campbell
[54]  اسماعيل المصدق: هايدجر بين البدء الأول و الآخر، مدارات فلسفية (المغرب) ،  ع 15 ، يوليو 2007 ، ص 33.
. op. cit.p 391 [55]  R. Campbell
[56]  مارتن هيدجر : نداء الحقيقة ، ترجمة عبد الغفار مكاوي ، دار الثقافة ، القاهرة ، 1977 ، ص 15 (من مقدمة المترجم).
[57]  اسماعيل المصدق ، المرجع السابق ، ص 33.
[58]  ينظر: إ.م.بوشنسكي : الفلسفة المعاصرة في أوروبا ، ترجمة ، عزت قرني ، عالم المعرفة ، الكويت ،ربيع الأول 1413ه ،س أيلول 1992 م ، ص ص 272-275. و هايدغر: الكينونة و الزمان ، سبق ذكره ، الصفحات 129، 209 ، 231.
[59]  استفدنا في عرض أنطولوجيا الدازاين من : بوشنسكي ، المرجع السابق ، ص ص 277-280. عبد الرحمن بدوي : دراسات في الفلسفة الوجودية ، المؤسسة العربية للدراسات و النشر ، بيروت ، ط 1 ، 1980 م ، 1400 ه ، ص ص 88-99. شاكر هيكل : القلق عند هايدجر ، مجلة القاهرة ،  104 ، 19 رجب 1410 ه ، 15 فبراير 1990 ، ص ص 48-51.
[60]  Atelier d'esthétique :Esthétique et philosophie de l'art , op cit ,p153
[61]  Ibid .p 154
[62]  Azoumana Outtara : La poésie au miroir de la philosophie .Revue de CAMES , Nouvelle série ,B , Vol.009 ,N2 , 2007 , p 173.
[63]  Ibid.p 174
[64]  Martin Heidegger : Chemins qui ne menent nulle part , gallimard ,Paris ,1962 (réimpression 2012) . p p 323-324.
[65]  Ibid .p p326-327.
[66]  ينظر محمد طواع : شعرية هيدجر، مقاربة أنطولوجية لمفهوم الشعر ، منشورات عالم التربية ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط1 ، 1431 ه – 2010 م ، ص ص 77-78.
[67]  مصطفى الكيلاني : ماهية الشعر في قراءة هايدجر لهلدرلين ، المسار (تونس) ، ع 2 ، يناير 1989 ، ص 89.
[68]  محمد طواع ، المرجع السابق ، ص 24.
[69]  ميشيل هار : هايدغر و الشعر : الشاعر لا يأتي بالخلاص ، فكر و فن (ألمانيا) ، رقم 47 ، يناير 1988 ، ص 11.
[70]  المرجع نفسه و الصفحة نفسها.
[71]  المرجع نفسه و الصفحة نفسها.
[72]  محمد طواع ، المرجع السابق ، ص 68.
[73]  Voir : Jean-Claude Pinson :Du spéculatif au dialogique : philosophie et poésie selon Yves Bonnefoy . in:Dalhousie French Studies, Vol. 60, Yves Bonnefoy aujourd'hui (Fall 2002).p14