فصل من كتاب "علاقات الشخصية اليهودية/ الصهيونية بالآخر في الرواية
العربية المعاصرة (2000-2020)
الصفحات 149-161
د.رياض بن يوسف
جامعة قسنطينة 1.
الجزائر.
الملخص:
لا شك أن حضور الشخصية اليهودية في المتون السردية
العربية ليس وليد الحقبة الراهنة بل هو متأصل وعريق زمنيا يمتد إلى بدايات الأدب
العربي (القصة الشعبية عن السموأل مثلا)، ولكن هذا الحضور أصبح لافتا في العقدين
الأولين من القرن الحادي والعشرين، وهي ظاهرة استوقفت كثيرا من الدارسين.
إن
مثل هذا الحضور- الطارئ- يستدعي جملة من
التساؤلات المشروعة:
لماذا
تحضر الشخصية اليهودية في المتن السردي العربي في هذه الحقبة بالذات؟ هل يتم
توظيفها على مستوى فني خالص أم أنها قناع إيديولوجي أو سياسي للكاتب المتخفي خلف
السارد؟ أم أنها مجرد "طعم
رخيص" لاصطياد جائزة أدبية ما؟!
لا شك أن ثمة دائما خطابا آخر متخفيا خلف البنية السطحية لأي متن سردي، يظل
مدسوسا بين علامات النص وإشاراته، ولاستنطاق المقول/المسكوت عنه لا بد من
الاستئناس بمنهج نقدي مركب، إذ لا يسع المناهج ذات المقاربة الشكلية أو السياقية
أن تحفر عميقا في الخطاب السردي، ولا سيما إن كان مريبا بطبعه مثل النصوص التي
تبرز فيها الشخصية اليهودية الغريبة -نسبيا- عن النسيج المجتمعي العربي الإسلامي.
تأسيسا على ما سبق ذكره ارتأينا مقاربة متنين
سرديين جزائريين معاصرين تحضر فيهما الشخصية اليهودية بصفتها فاعلا رئيسا ومفتاحا
أساسيا للحبكة السردية وهي: رواية الاعتداء L’attentat لياسمينة خضرا ورواية أنا وحاييم للحبيب
السائح، وهي مقاربة نستأنس فيها بمنهج مركب من سيميائيات مدرسة باريس السردية
وسرديات جيرار جنيت ومنهج الدراسات الثقافية.
المقدمة:
تأثث المتن السردي العربي في العقدين الأولين
للألفية الثالثة بوافد طارئ هو "الشخصية اليهودية" التي غدت فاعلا مهما
في نسيج الحبكة السردية، وعلامة بارزة لا تخطئها عين القارئ المعني بالمتون الروائية
العربية، وهذا الحضور الطارئ للشخصية اليهودية لم يكن أبدا بريئا أو عفويا، بل له
إرهاصاته وممهداته ومسوغاته التي شارفت به مستوى الظاهرة. ومن آيات هذا التحول أن
نبتت في مفاصل النقد العربي أسئلة قلقة تقارب هذه الظاهرة الوليدة.
في هذا السياق الإشكالي سعى بعض النقاد إلى حصر
أسباب وتجليات هذه الظاهرة، مثل "غسان إسماعيل عبد الخالق" الذي يذهب إلى
حصر أسباب "تصاعد شخصية اليهودي" في الرواية العربية، في: إدانة الشخصية
اليهودية بإطلاق، ثم التمييز بين شخصيّة اليهودي الصهيوني واليهودي الإنسان، ثم مجاراة واقع التطبيع السياسي مع إسرائيل، ثم الميل
إلى استفزاز القارئ ولفت انتباهه، ثم مغازلة صنّاع القرار الثقافي العالمي طمعًا
في التأهُّل لبعض الجوائز العالميّة.[1]
أما
"محمد سيد أحمد متولي" فيتبنى تفسيرا طريفا، وهو أن ظاهرة
الكتابة عن اليهود نشأت لدى السارد العربي عن رغبة قد تَخَلقت بداخله بوعي أو من
غير وعي بعد طول صراع مع الكيان الصهيوني، فقد أذكى هذه الرغبة ما عَلِقَ بصورة
العربي من تشويه كبير بعد أحداث سبتمبر 2001 ، تلك الأحداث التي تركت بصمتها على
الضمير العربي، ودفعته إلى تأكيد هويته والدفاع عنها في مواجهة تهمة الإرهاب التي
ألحقها به الآخر الغربي، بعد أن شاع لديه الرهاب منها، فاستمر في اختزال الأنا
العربية في صورة نمطية مشوهة وتزلزلتْ كل القيم واضطربت الهُوِية بعد اجتياح الغرب
للعالم العربي بدءا من غزو العراق عام 2003 حتى اليوم. فصار العربي كأنه في حال
دفاع عن النفس والهوية، فتراجع إلى الخلف قليلا ليعيد حساباته، ويتدبر أمره في
مواجهة العواصف الغربية، فتبدو هذه الروايات كأنها تراجع تكتيكي باللغة
العسكرية لامتصاص هجوم الغرب الغالب أو للتخفيف من حدته. [2]
وبعيدا عن مثل هذه المقاربات الحفرية التي
تستنطق الأسباب السياقية العامة لظاهرة أدبية سردية جديرة بالتناول الجزئي قبل
الوصول إلى أحكام جديرة بالتعميم، نسعى إلى المقاربة المحايثة للمتن السردي الذي
تؤثثه الشخصية/ الشخصيات اليهودية، سَبْرا واستكناها لمسوغات وغايات مثل هذا
الحضور، وفي ذهننا تتَّقد أسئلة إشكالية هي محركنا وحافزنا في البحث:
- ما هي أنماط
وأشكال حضور الشخصية الروائية اليهودية في المتن السردي العربي؟
- ماهي مسوغات
تخطي السارد للصورة النمطية المعهودة للشخصية اليهودية (الجشع، الخيانة،
الخداع...الخ) ونزوعه إلى أنْسنتها؟
- ما هي تجليات
الصراع العربي-الإسرائيلي في المتون السردية التي تحتفي بالشخصية اليهودية، وما هو
موقف الكاتب المضمر أو المعلن من هذا الصراع؟
في
سبيل الإجابة عن هذه الأسئلة – وما هو في فلكها- ارتأينا مقاربة متنين سرديين
جزائريين هما رواية "الاعتداء"
"L’attentat"لياسمينة خضرا، و"أنا
وحاييم" للحبيب السائح.
وهي
مقاربة نستأنس فيها بمنهج مركب من النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية، والمنهج
السيميائي السردي المستلهم من أعمال مدرسة باريس، وكذا منهج السرديات البنيوية كما
تمت صياغته على يد "جيرار جينيت" وخاصة ما تعلق بقضايا المنظور عند هذا
الأخير. وقد دفعنا إلى اجتراح هذا المنهج المركب، ما لمسناه في "النقد
الثقافي" من قصور ونكوص إلى التناول السياقي بعيدا عن أي تناول نسقي للخطاب
الأدبي. فباعتبار النقد الثقافي بحثا في النص الأدبي عن شيء غير الأدبية، أي
ابتعاده عن تناول الخطاب الأدبي كما قررته المؤسسة الثقافية حسبما توارثته من
مواصفات بلاغية وجمالية، ورغم أن النقد الثقافي كما صاغ أسسه الناقد الغذامي هو
إضافة أو تطوير للنقد الأدبي السابق وليس بديلا له، حيث يضيف إلى العناصر الستة للنموذج
الاتصالي الذي صاغه جاكوبسون وهي: المرسل والمرسل إليه والرسالة والسياق والشفرة، وأداة
الاتصال، عنصرا سابعا هو العنصر النسقي، وتبعا لذلك يضيف إلى الوظائف الست للغة
:النفعية والتعبيرية والمرجعية والمعجمية والتنبيهية والشاعرية (الجمالية) وظيفة
سابعة هي الوظيفة النسقية.[3]
لكن
أغلب الدراسات العربية التي اتخذت من النقد الثقافي شعارا لها اكتفت بالوظيفة
النسقية، ومحاولة رصد الأنساق الثقافية المضمرة، متجاوزة أهم العناصر المكونة
لأدبية النص الأدبي (ولا سيما النص السردي)، وأبنيته الجمالية، وهي في الواقع
تتعاضد مع الدرس الثقافي وتتكامل معه في كشف الأنساق المضمرة عبر تعرية
استراتيجيات السارد التي يكشف عنها التناول الجمالي للنص.
لكل
ذلك سعينا إلى ضربٍ من الترميم المنهجي للنقد الثقافي من خلال دمج
مستويين من التحليل في تناولنا لروايتي ياسمينة خضرا، والحبيب السائح:
مستوى التحليل الثقافي السياقي قَنْصًا لأنساق النص المضمرة، وحتى المعلنة فالنسق
المضمر لا يستعلِن إلا عبر النسق المضاد، ومستوى التحليل الجمالي النسقي رَصْدًا
للبرامج السردية الرئيسة والبرامج الرديفة وما تستبعه من عوامل مساعدة أو معيقة،
وكذا تناولًا للمنظور السردي ومستويات التبئير .
أ-
رواية الاعتداء لياسمينة خضرا:[4]
البطل السارد في الرواية هو الدكتور “أمين الجعفري”
الجراح الإسرائيلي الجنسية من أصل فلسطيني. وفاتحة القصة هجوم إرهابي يستهدف موكب
الشيخ مروان. والسارد الراوي -الذي ما زلنا لم نتعرف عليه بعد- يروي تفاصيل
الاعتداء وندرك أنه هو نفسه من ضحايا التفجير من خلال وصفه الدقيق لإصابته المميتة.
ثم ينقلنا السارد إلى أجواء القصة، فندرك أنه
طبيب جراح في مستشفى ايشلوف في تل أبيب، أنهى للتو عملية جراحية ويستعد للعودة إلى
بيته لملاقاة زوجته العائدة من رحلتها إلى الناصرة، لكن هجوما انتحاريا نُفِّذ
داخل مطعم في تل أبيب يضطره إلى البقاء وقتا إضافيا في المستشفى، وإجراء بعض
العمليات المستعجلة لإنقاذ الجرحى.
يعود أمين إلى بيته فلا يجد زوجته سهام هناك.
وبينما كان يستعد للراحة والنوم يتلقى اتصالا من المستشفى فحواه ضرورة حضوره
العاجل، وهناك يخبره زملاؤه والشرطة أن الانتحارية التي قامت بتفجير المطعم هي
زوجته "سهام". ورغم تعرفه فيما بعد على جثة زوجته إلا أنه ظل غير مصدق،
ومصرا على براءتها. وفي خضم ذلك يتعرض بيته لاعتداء من الإسرائيليين الغاضبين ويتم
تعليق قصاصات صحف تتناول العملية التفجيرية على جدران بيته، كما يتعرض هو نفسه
للمطاردة والضرب والشتم من طرف إسرائيليين غاضبين، ويخضع لاستنطاق الشرطة لمدة ثلاثة
أيام. البطل أمين في هذه الظروف لا يحظى بالدعم المعنوي إلا من ثلاثة أصدقاء: مدير
المستشفى 'عزرا بن حاييم' الذي يتبادل معه الزيارات العائلية ويلعب معه التنس في
أوقات الفراغ، و"كيم يهودا' زميلته في المستشفى التي ترافقه في مأساته من
بدايتها إلى رحيله المفاجئ نحو بيت لحم، وكذلك 'نافيد رونين' المسؤول في الشرطة
الإسرائيلية والمدين للجراح أمين بإنقاذ رجله من البتر. خارج هذه الدائرة الضيقة
يعاني أمين من عنصرية المجتمع الإسرائيلي، والكراهية التي بدأت تضيق حلقاتها
السوداء حوله، وهو مع ذلك ما زال في حالة صدمة وإنكار، غير مصدق أن زوجته سهام
التي كانت تبدو سعيدة وطموحة هي من فجرت نفسها...لكنه بعد أن يقرأ رسالة من سهام
وصلت إليه من بيت لحم، يخرج من حالة الإنكار ويتأكد أن زوجته هي الانتحارية، وهنا
يقرر السفر إلى جنين بحثا عن الأسباب التي دفعت زوجته لهذا العمل، ومصمما على
مواجهة أولئك الذين شجعوا زوجته على ما أقدمت عليه. فيتنقل بين القدس وبيت لحم
ورام الله وجنين بحثا عن أجوبة حاسمة لأسئلته المؤرقة. وخلال ذلك يدرك عبر قريبه
عادل أن سهام كانت منخرطة في المقاومة منذ زمن، وأنها كانت تمثل شعبة المقاومة في
تل أبيب، كما أنها وضعت حسابها المصرفي في خدمة القضية. كما أنها نفذت عمليتها بعد
أن تلقت المباركة من الشيخ مروان إمام مسجد جنين. وفي رحلته الاستكشافية يدرك أمين
الجعفرى عمى بصيرته التي أخفت عنه مأساة شعبه، وقراه المحاصرة، والسيارات
المحروقة، ونقاط التفتيش الإسرائيلية والمستضعفين الذين ينتظرون دورهم على حواجر
التفتيش...لكن قومه يعتبرونه منشقا، بل يشتبهون في كونه عميلا للشين بيت، فيحتجز
في مستودع لستة أيام ثم يغادره رفقة قريبه عادل، ويعود إلى مرابع الصبا، إلى قريته
في جنين، حيث عمه عمر كبير عشيرة الجعفري، هناك يستعيد ذكريات طفولته، ويحظى
بترحيب حار كأنه الابن الضال الذي اهتدى بعد طول غياب إلى بيته الأصلي. كما يتعرف
على يهودي حكيم هو الشيخ "زيف الناسك" الذي يرفض السياسة الإسرائيلية
العنصرية ويظل يهوديا فلسطينيا كأجداده. خلال إقامة أمين بين قومه يتلقى وسام،
الشاب الطيب الوديع، حفيد عمه عمر، استدعاء من المقاومة، وفي الغد يدرك أن الشاب
وسام قد فجر نفسه أمام حاجز تفتيش إسرائيلي، فتتعرض قرية الجد بعد العملية لاجتياح
إسرائيلي ويتم تهديم بيت العائلة تحت أنظار أمين المستنكرة وعلى وقع احتجاجه ضد
الضابط الإسرائيلي. وهنا يدرك البطل أن قريبته فاتن سائرة على خطى زوجته سهام،
لهذا يلاحقها إلى جنين، وتحديدا إلى المسجد الذي يؤم الصلاة فيه الشيخ مروان،
معتقدا انه سيجدها هناك. وفي خضم بحثه عن قريبته، وبعد خروج الإمام مروان مع موكبه
نحو السيارة يتم تفجير الموكب بواسطة طائرة دون طيار، وهنا يتم استرجاع فاتحة
القصة بكلماتها نفسها تقريبا، لندرك أخيرا أن البطل السارد الذي كان ضمن الضحايا
هو أمين الجعفري نفسه.
لقد حظيت رواية الاعتداء لياسمينة خضرا باحتفاء نقدي غربي وعربي، وسعت بعض
القراءات إلى ربط الرواية بأبعاد إيديولوجية معينة، بينما استبعدت بعضها أي نزعة
إيديولوجية عند المؤلف، واعتبرت الرواية دفاعا عن قيم إنسانية مطلقة.
ف "أنيك دوشاتل " Annick Duchatel مثلا، ترى أن رواية الصدمة هي محاولة لفهم ما لا
يُفْهم، أي كيف يصبح المرء انتحاريا؟ وحسب ما تقول دوشاتل فإن الدكتور أمين –في
منظور ياسمينة خضرا- يجسد وحده الصراع العربي الإسرائيلي: فهو فلسطيني في جلد
إسرائيلي. إن عدم الفهم الذي يعاني منه الدكتور أمين يحيلنا على سوء الفهم الذي
يميز الغرب نفسه. فحسب ياسمينة خضرا، الكل يراقب التفجيرات من برجه العاجي، ويحلل
آثارها دون أن يتساءل عن الأسباب: لماذا يصبح رجالٌ (وكذلك نساءٌ كما بينته
الأخبار) انتحاريين؟
وفي سياق إجابته عن مثل هذا
التساؤل يستحضر ياسمينة خضرا حوارا بينه وبين رجل بريطاني التقاه في سنغافورة حيث
تساءل محدثه – وكان موضوع الحديث عن
تفجيرات مترو لندن-: "What did they want ماذا يريدون؟ إنهم مواطنون بريطانيون. فأجابه خضرا: السؤال الذي كان ينبغي
طرحه هو الآتي: "ماذا فعلت أنا ليكرهوني إلى هذه الدرجة؟".[5]
وهذا هو السؤال الذي يبدو
غائبا عن الشخصية الإسرائيلية في الرواية، فهي شخصية مبأرة تبئيرا خارجيا،
لا ندرك ما تفكر فيه وما تختزنه من مواقف حول الصراع العربي الإسرائيلي، بوصفه
صراعا إيديولوجيا وسياسيا وثقافيا، وباختصار بوصفه صراعا حول أحقية الانتماء
للمكان. فهذه الأسئلة تكاد تكون غائبة إلا عبر فلتات عابرة، دسها المؤلف في مفاصل
سرده من خلال حوار بين الشخصيات الإسرائيلية حول العملية التفجيرية:
" قال عزرا متنحنحا: لا
أفهم الصلة.
قال بنيامين الذي لطالما درس
الفلسفة في جامعة تل أبيب قبل الانضمام إلى حركة سلمية تثير لغطا شديدا في القدس:
- ثمة صلة دائما حيث لا تثار
الشكوك. لذلك نحن لا نكف عن عدم استيعاب الأمور.
اعترض عزرا بلباقة: دعنا لا
نبالغ.
- هل المواكب الجنائزية التي
تتقاطع من هذا الطرف والطرف الآخر قد جعلتنا نحرز تقدما؟
- الفلسطينيون هم الذين
يرفضون الاستماع إلى صوت العقل.
- ربما نحن الذين نرفض
الاستماع إليهم.
قال نافيد بنبرة هادئة
وملهمة: بنيامين على حق. الفلسطينيون الأصوليون يرسلون فتيانا لتفجير أنفسهم في
موقف حافلة. وريثما نلملم قتلانا، ترسل لهم قياداتنا العسكرية مروحيات لقصف
بيوتهم. في اللحظة التي يتهيأ قادتنا لإعلان النصر، يأتي تفجير آخر ليعدل في
موقفهم. إلى متى سيدوم ذلك؟[6]
تبدو الشخصية الإسرائيلية هنا منغلقة ومنغمسة في
منظور ذاتي تبسيطي، يوجز المشهد الفلسطيني في دائرة الفعل ورد الفعل. إن هذا
الموقف بالاصطلاح الجينيتي (نسبة إلى جيرار جينيت) هو تبئير في درجة الصفر،
يُغفل الجذور الحقيقية للثورة الفلسطينية وهي اغتصاب الأرض ومصادرة المكان
الفلسطيني قبل كل شيء.
إن حوار الشخصيات هنا ينطلق من مصادرة تتجاوز
كل نقاش حجاجي وهي المصادرة الصهيونية التي تعتبر الاحتلال والكيان الناشئ عنه
أمرا واقعًا وحقا مشروعا. ولذا فإن النسق المضمر هنا هو النسق الصهيوني، باعتبار
مقولاته الأسطورية حقيقة غير مطروحة للنقاش أصلا، فما يستعْلن في الحوار هو حق
المواطن الإسرائيلي في فلسطين المناوئ لحق الفلسطيني في أرضه. هذه المغالطة
الكامنة في طبقات الخطاب الخفية هي التي ينبغي تعريتها وكشف زيفها.
إن وجهة النظر الصهيونية،
بوصفها دوغما dogma، أو إيمانا قبليا Illusio حسب مصطلح
بيار بورديو، هي النسق الكامن في كل تجليات الشخصية اليهودية داخل الرواية.
وهنا نتساءل: ما هو موقف
المؤلف ياسمينة خضرا من وجهة النظر الصهيونية، بعيدا عن موقف البطل السارد أمين
الجعفري، الذي لا يزال –قبل توغله في العمق الفلسطيني- متشربا إلى النخاع الرؤية
الصهيونية دون وعي منه. وهذا ما يتجلى مثلا من خلال سؤاله لنافيد:
" ...- قل لي يا نافيد،
أنت الذي شاهدت أعدادا من المجرمين والتائبين، وكافة أشكال الممسوسين المختلين، كيف
يمكن لأحدهم، هكذا على حين غرة، أن يتحزم بالمتفجرات، وينسف نفسه وسط حفلة؟"[7]
يرى دومينيك غارون Dominique Garand أن القضية الوحيدة التي يدافع عنها أمين في البداية هي نجاحه
الاجتماعي وسعادته الزوجية.[8]
وما يذهب إليه دومينيك غارون
هو ما يتبدى فعلا من خلال البرنامج السردي للبطل: أي الاندماج التام في المجتمع
الإسرائيلي. والبرامج الاستعمالية التي لجأ إليها لتحقيق برنامجه الأساسي هي
التفوق الدراسي والمهني، والاستقرار العائلي مع زوجة متجنسة بالجنسية الإسرائيلية
مثله، وممارسة الحياة النمطية في تل أبيب بوصفه مواطنا إسرائيليا.
إن النسق المضمر هنا هو
النسق الصهيوني بما يتضمنه من تغييب مطلق للهوية الفلسطينية وهيمنة مطلقة للواقع
الإسرائيلي بوصفه واقعا قدريا يشعر فيه البطل بالطمأنينة والسكينة.
يبدو البرنامج السردي إذن
مكتملا، لكن لا تلبث نقطة التحول عبر العامل العائق أن تُفْشل البرنامج السردي
للبطل، وهذا العامل العائق ليس إلا سهام، زوجة البطل التي تمثل لغزا، وسؤالا،
ومفتاحا للحل في الوقت نفسه. لقد ساهمت العملية التفجيرية التي قامت بها سهام في
تعرية الأنساق المضمرة وتحويلها إلى أنساق معلنة: فأيمن الطبيب الإسرائيلي، يصبح
في نظر مواطنيه الإسرائيليين (باستثناء بضعة أصدقاء) فلسطينيا، وإرهابيا محتملا،
ومصدر تهديد، باختصار يصبح نقيضا وعدوًا. وهنا يحدث انقلاب في البرنامج السردي
للبطل، تدفع إليه الأحداث: فبعد البرنامج الأول أي الاندماج، يقود المؤلف ياسمينة
خضرا، بطله السارد أمين الجعفري، عبر حبكة سردية متقنة إلى برنامج سردي مضاد وهو
العودة إلى الجذور واستعادة هويته الفلسطينية.
ولكن بعض القراءات التي
تناولت رواية الصدمة تتجاهل استراتيجية المؤلف السردية، ومسار الحبكة المعقد،
فتسارع إلى تأويلات إسقاطية تتماهى فيها شخصية المؤلف بشخصية البطل السارد، مثل
"نايلة ناصر" التي ترى أنه
"على الرغم من أن العملية الانتحارية التي يرويها لنا ياسمينة خضرا وقعت في
تل أبيب فإن قارئ "الاعتداء" لا يستطيع إلا أن يفكر في أماكن أخرى في
العالم شهدت عمليات مماثلة، وهنا تكمن خطورة رواية ياسمينة خضرا الذي يعين
الانتفاضة الفلسطينية ضمن خانة الإرهاب الأحادي الجانب متناسيا أو يكاد، ما عدا
تلميحات متفرقة، إرهاب الدولة الإسرائيلي اليومي على الشعب الفلسطيني".[9]
إن مثل هذه القراءة تبدو
سطحية ومتعجلة، لأنها تكتفي بما يتبدى من خلال القسم الأول من الرواية، دون أن
تتمعن في مُخْرجات الحبكة ومآلاتها التي رصد من خلالها المؤلف إرهاب الدولة
الإسرائيلية بتفصيل شديد.
أما دومينيك غارون فيلاحظ أن
صوت السارد في رواية ياسمينة خضرا ليس متسلطا، فهناك أصوات تعارضه وليس هذا فحسب
بل إن وجهة نظره لا تفرض نفسها في النهاية بوصفها "متفوقة" فضلا عن أن
تكون "منتصرة". كما يلاحظ أن المنظور الأخلاقي الذي يفضله ليس حلا
إيديولوجيا يتطلب تأسيس سلطة. على العكس من ذلك فإن منظور "أمين" الأخلاقي
يتعلق بتحول في النظرة يسمح بالخروج من نسق التعارض المميت الراهن. وهذا ما يعني
بوضوح: التحرر أو التنصل dégagement بدلا من الالتزام engagement. [10]
لكن ما يذهب إليه غارون هنا
يرتبط بموقف أمين قبل أن يتوغل في الداخل الفلسطيني، فهو نفسه يدرك، عبر توتر
الحبكة وكشوفه التدريجية ضحالة موقفه الموغل في شخصيته وفرديته. ولذلك أزاح المؤلف
صوت البطل السارد إلى الهامش، بوصفه خطابا شخصيا ذاتيا مسكون بهموم فردية من قبيل
غيرته التي أثارتها شكوكه حول طبيعة العلاقة بين سهام وعادل،[11]
وبالمقابل تتسع المساحة التي أتاحها المؤلف للواقع الفلسطيني الذي شاهده البطل
السارد فاعترف قائلا:" ... ولكن مشاهدة ما لا يطاق بأم العين يصدمني. في تل
أبيب، كنت أعيش على كوكب آخر. كان قصر بصري يخفي عني جوهر المأساة التي تنهش
بلدي".[12]
ولا ريب أن القارئ المحايد، الصبور يلاحظ هنا بداية تحول جذري في علاقة البطل
بمكانه الفلسطيني، فهو في مسار السرد شخصية نامية، تسترجع هويتها المفقودة
بالتدريج. فحين يزور مرابع طفولته، حيث نشأ، وحيث يقيم كبير الأسرة الجد عمر رفقة
أبنائه وأحفاده، يقابل بحفاوة شديدة كابن ضال عاد إلى بيته، ويدرك مدى اغترابه عن
واقعه الفلسطيني:
"...حين شاهدت كل هؤلاء
الناس يعربون لي عن محبتهم، وليس لدي ما أتقاسمه معهم سوى ابتسامة، أدركت مدى
الفقر الذي أصابني. اعتقدت أنني أقطع أواصري إذ أولي الظهر لهذه الأراضي
المخربة والمكممة. كنت لا أريد أن أشبه أهلي وأخضع لبؤسهم، وأتغذى
بصلابتهم".[13]
تتعدد الأصوات هنا في هذه
الرواية، فهي رواية بوليفونية، يقف المؤلف على هامشها، مما يجعلها كما يقول
دومينيك غارون "رواية تترك التأويل مفتوحا".[14]
ولعل ما يلفتنا أكثر هو تغييب المؤلف التدريجي للشخصية الإسرائيلية المُؤَنْسنة،
فحلقة الأصدقاء الضيقة سرعان ما تتفكك من حول البطل، حيث تغيب ملامحهم تدريجيا
داخل العمق الفلسطيني، يختفي نافيد أولا، ثم صديقة البطل كيم التي يقوم المؤلف،
عبر استراتيجية سردية مقصودة، بتغييبها عن العمق الفلسطيني، لنُجابه بشخصية يهودية
أخرى، عسكرية قمعية، لا وجه ولا ضمير لها، شخصية مثل آلتها الحربية لا تسمع ولا
تحاور ولا ترحم. فبعد العملية الاستشهادية لوسام تحضر الآلة القمعية الصهيونية
لتدمير بيت الجد:
"...اجتاح الجنود
البستان عند الفجر. وصلوا بشاحنات مسيجة، وحاصروا بيت الجد. كانت تتبعهم عن قرب
حاملة دبابات تنقل جرافة".[15]
وتتجلى آلية وقسوة الشخصية
الصهيونية هنا من خلال حوار أمين مع الضابط المسؤول:
"..اعترضت قائلا: -
ماذا تقول؟ ستدمرون الدار؟
- لم يتبق لكم سوى تسع
وعشرين دقيقة.
- هذا مستحيل. لن نسمح لكم
بتدمير دارنا........لا يحق لكم ..هنا بيت الجد، أهم مرجعية في عشيرتنا. سوف
تنصرفون من هنا، وفي الحال.
- ثماني وعشرون دقيقة
سيدي.
- سنبقى في الداخل. لن نرحل.
قال الضابط: - هذا ليس من
شأني. جرافتي تخبط خبط عشواء. حين تنقض، تمضي حتى النهاية. لقد أنذرتكم.
قالت لي فاتن، وهي تجذبني من
ذراعي: -تعال. هؤلاء الأشخاص مثل آلتهم لا يرحمون. فلننقذ ما بوسعنا إنقاذه
ولنرحل".[16]
تتجلى الشخصية اليهودية هنا،
من خلال الضابط، بوصفها شخصية آلية قمعية، رافضة للحوار العقلاني أو التفاعل
الإنساني، فهي شخصية روبوتية، مبرمجة على احتساب الدقائق المتبقية للفعل التدميري
دون مراعاة لأية تبعات مأساوية محتملة، إنها شخصية متماهية تماما بآلتها الحربية.
وفي خاتمة القصة، حين يمتزج
دم البطل بدماء إخوانه، ويسقط ضحية للآلة القمعية الإسرائيلية (الطائرة المسيرة
سلكيا).. لا يسترجع في حلم احتضاره صور أصدقائه الإسرائيليين، بل يستحضر صور أهله،
ويستدعي ملامحه الفلسطينية وحدها، ملامح أمه وأبيه وبيت جده.
"...في سيارة الإسعاف
التي تقلني، تبتسم لي أمي. أريد أن أمد يدي لألمس وجهها، ولكن لا جارحة في جسدي
تلبيني......... تنهض دار الجد من أنقاضها، تنفض حجارتها عن نفسها الغبار، ترجع
إلى مكانها في كوريغرافيا سحرية.......ينطلق الطفل منعتقا من هواجسه .............ويحلق
نحو السماء، يصحبه صوت أبيه: بوسعهم أن يحرموك من كل شيء، أملاكك، أجمل سنوات
عمرك، كل أفراحك، ومجمل إنجازاتك، حتى آخر قميص عندك- ولكنك ستحتفظ دائما بأحلامك
لإعادة إبداع العالم الذي صادروه منك".[17]
يتأثث حلم السارد هنا من العناصر التي تربطه
بجذوره دون غيرها، أي الأم والأب اللذان يرمزان للأصل والأرومة المنسية، وبيت الجد
المهدم الذي يرمز للمكان الفلسطيني المنتهك، وتغيب تماما من فضاء الحلم الشخصيات
اليهودية التي كانت تؤثث وحدها مكان غربته في تل أبيب. يمكننا هنا أن نقول، في
انحياز مدروس ومبرر، أن ياسمينة خضرا يعتنق، عبر بطله السارد، الحلم الفلسطيني
الأكبر: حلم العودة الذي يعني باللغة الحالمة ترميم بيت الجد.
ب-
رواية أنا وحاييم للحبيب السائح:[18]
تدور الرواية حول الصداقة التي جمعت بين أرسلان
حنيفي ابن القايد المسلم وحاييم بن ميمون ابن التاجر اليهودي، وقد جمعهما الانتماء
إلى جزائر ماقبل الاستقلال، الجزائر التي كانت متميزة بتعدد طوائفها، وقد نشآ معا
في حي الدرب بمدينة سعيدة غرب الجزائر، حيث كان مفتتح السرد الأقرب إلى السيرة
المتخيلة، سنة 1944، راصدًا نشأة الصبيين معا، ودراستهما المشتركة في مدرسة
مدينتهما، ثم في ثانوية معسكر ونجاحهما في شهادة البكالوريا ثم انتقالهما إلى
الجزائر لدراسة تخصصين جامعيين مخنلفين، فقد اختار أرسلان الفلسفة بينما اختار حاييم
الصيدلة. وقد كانت هذه المرحلة بالنسبة لهما هي بداية تفتح الوعي الوطني، والإدراك
العميق للهوة الفاصلة بين مجتمع الأهالي أو الانديجان ومجتمع المعمرين، كما شهدت
انخراط أرسلان في الحركة الوطنية وبداية نشاطه مع خلاياها الأولى وسرعان ما توج
ذلك بالتحاقه بالثورة، كما أن حاييم لم يبق على الحياد بل فتح صيدليته للثوار
ودعمهم بالدواء والعلاج، كما ساهم في إنقاذ زليخة رفيقة أرسلان في الجبل، والتي
ستصبح زوجته بعد الاستقلال. ومن مواقف حاييم التي سجلها السارد رفضه للهجرة إلى إسرائيل
باقتراح من حبيبته غولدا التي قررت الهجرة إلى هناك، معلنا بذلك رفضه للصهيونية
وانتماءه لبلده الجزائر، ومضحيا في الوقت نفسه بحب حياته.
بعد
الاستقلال عُين أرسلان رئيسا لبلدية سعيدة، وكان حاييم دائما إلى جانبه حيث كان
مساعده، ولكن الصديقين لا يلبثان أن يصطدما بالواقع المر: فثوار الأمس استولوا على
غنيمة الاستقلال واحتكروا الأملاك والمناصب وفرضوا الوصاية على الشعب، لكن أرسلان
لا يستسلم لليأس المطلق بل يواصل معركته الخاصة من خلال مهنة التدريس التي يمارسها
في مدينته، أما صديقه حاييم فيموت بعد فترة قصيرة من تبعات سرطان الدم موصيا بدفنه
في المقبرة اليهودية بسعيدة، في إشارة قوية إلى تشبثه بالمكان الذي ينتمي إليه.
إن موضوع الرواية يضعنا أمام مفارقة: فالشخصية
اليهودية ليست جزءا من النسيج المجتمعي الجزائري، وبناء على ذلك فإن القارئ
يتساءل: ما مسوغات تأليف عمل سردي معاصر يكون بطله يهوديا جزائريا لا وجود له في
الواقع الراهن؟
إن
الرواية في الواقع تجيب عن أسئلة الراهن بمعطيات التاريخ البائد، فهي مرافعة عن
المجتمع الجزائري العربي المسلم الأمازيغي الجذور، باعتباره جزءا لا يتجزأ من
الأمة العربية الإسلامية، وبوصفه –حسب معطيات التاريخ الواقعي لا المتخيل-فضاء
للتعايش التاريخي بين مختلف الطوائف. ففي زمن الإسلاموفوبيا والدعاية الإعلامية
الغربية ضد العرب، كتب السائح هذه الرواية مسكونا وموجَّها بهاجس قومي وإنساني
يلخصه قوله: " ما يمكن أن يجمع بين يهودي وبين مسلم هو الإنسانية،
لأننا جميعا أبناء آدم، كما تقوله الرواية نفسها. الإنسانية التي تقاوم الميز على
أساس الدين أو العرق وتناهض الاحتلال وتتبنى تقرير مصير الشعوب. فما يباعد اليوم
بين اليهود وبين المسلمين ليس هو الدين بل هو احتلال فلسطين وتسليط القمع غير المسبوق
على شعبها الصامد وممارسة الأبارتايد بحقه."[19]
لقد
خضعت الرواية لمقاربات نقدية –مازالت لم تحقق الثراء الكمي والنوعي المطلوب لحداثة
صدورها- ولعل من أبرزها ما قدمته الباحثة الجزائرية "آمنة بلعلى" في
مقالها الموسوم بـ " زحام الأنساق في رواية “أنا وحاييم” للحبيب السايح".[20]
حيث
ترى أنه " يمكن النظر إلى الرواية على أنها مرافعة ومحاججة بامتياز لصالح
يهود الجزائر من خلال نموذج مثالي هو حاييم الذي قد يكون نموذجا افتراضيا، ما لم
يثبت بالوثائق التاريخية أن بعض يهود الجزائر لم تكن لهم علاقة بالصهيونية ولا
بدولة إسرائيل."[21]
والواقع
أن النموذج اليهودي الذي يمثله حاييم والذي تضع الباحثة تاريخيته موضع تساؤل
وتشكيك موجود فعلا، ومن نماذجه الشبيهة الكاتبة اليهودية "مريم بن" Myriam Ben التي عاشت في الجزائر واعتنقت
الفكر اليساري وشاركت في الثورة التحريرية فحكمت عليها الإدارة الاستعمارية بحكم
غيابي بالسجن مع الأعمال الشاقة 20 سنة، وبعد الاستقلال حصلت على المواطنة واختارت
التدريس في بلدة نائية معزولة، ولم تغادر الجزائر إلا سنة 1991 مع بداية الأزمة
الأمنية الدامية.[22]
وفي
سياق تحليلها للعلاقة بين أرسلان الشيوعي ابن القايد الاقطاعي واليهودي حاييم
تتساءل الباحثة:
" ... ومن
ثمة ألا تكون مسألة انخراط كل من أرسلان ابن القايد وحاييم اليهودي في الثورة مجرد
صناعة لتاريخ مواز يقوم على تحالف بين الإقطاع والشيوعيين وبعض اليهود، لتمرير
رؤية أخرى متوارية في لغة أرسلان وفي حواراته، وفي موقفه من جيش التحرير الوطني
وجبهته، وفي موقفه من خروج الكولون، ومن النظام الذي تقلد الحكم بعد الاستقلال
ممثلا في مسؤول الحزب، وهو ما يجعلنا نتساءل عن المضمرات النسقية التي تتوارى خلف
هذه المواقف وهي غالبا ما تكون أنساقا تاريخية، تفرض نفسها وتتسرّب وتسري على غير
هدى الكاتب ومن دون وعي منه، حتى وإن أراد عكسها". [23]
إن
الكاتب لا يتحدث عن اليهودي الجزائري بصفة تعميمية بل عن اليهودي حاييم تحديدا، ففي
الرواية شخصية يهودية هامشية هي غولدا التي انخرطت أولا في المشروع التجنيسي
الاستعماري، قبل أن تلتحق بالحركة الصهيونية وتهاجر إلى إسرائيل، مما يشي بوضوح أن
رسالة الكاتب أو "الأنساق التاريخية" التي يصدر عنها ليست كما توهمتها
الباحثة، فتوصيفها لرؤية الكاتب السردية
بالتحالف بين الإقطاع والشيوعيين واليهود ليس له ما يبرره في متن السرد، فابن
القايد اختار الثورة، أي نقيض المشروع الاستعماري الذي تأسس برنامجه على تجنيد
الموالين له من أبناء الشعب. فكيف ساغ للباحثة الحديث عن تحالف محتمل بين الإقطاع
والشيوعية وهو تحالف مستحيل منطقا وواقعا كما أنه منتف تماما في الفضاء التخييلي
للرواية. وليس في النص إشارات صريحة إلى اعتناق أرسلان للماركسية، أما اليهودي
المناضل فله أمثلة حية في تاريخنا كما ذكرنا.
وتتحدث
الباحثة عما تسميه "نسق الذمية" في تأويلها لعلاقة أرسلان بحاييم بدءًا
من تراتبيتهما في العنوان وتقديم السارد أناه على الآخر أي حاييم فتذهب إلى أن
السائح عمد "إلى كسر قانون تعاملي في استعمال الجملة العربية يفترض تقديم
الآخر على الأنا احتراما له، فكان حريا أن يتصدّر النموذج المثال بداية الجملة،
فيقول حاييم وأنا ليكون تقديمه دالا على المكانة التي أرادها له".[24]
وتؤكد تأويلها بالقول أن سريان نسق مركز/ هامش
(أي مركزية أرسلان وهامشية حاييم) هو تجاوب لاواع "مع مرجعية كرّست هذه
العلاقة في التاريخ وفي الحضارة الإسلامية حيث لم يكن اليهود سوى أقلية تابعة،
سمّيت أهل ذمّة".[25]
وتضيف
الباحثة، مسوغة تأويلها بشاهد من الرواية أن الذمية قد اتخذت " وضعا عنصريا
مع الدولة العثمانية، مثلما ورد في قول حاييم مبررا قبول التجنيس لدى يهود
الجزائر، في قوله :"تعرف؟ جادلت والدي في أمر تجنّسه، فكان رده أنه فعل ذلك
لأن العثمانيين، هنا، كانوا يهينون أجدادنا، باعتبارهم ذميين لهم عليهم من حق
الحياة نفسه. وكانوا يفرضون عليهم الجزية. ويلزمونهم بلبس أثواب ذات ألوان صفراء.
ثم خلص إلى أنه يكفينا مع النصارى أن نحافظ على ديننا ولغتنا، كما ينادي بذلك رجال
الدين المسلمون في البلد أيضا" إن تسريب النص هذا النسق، حتى وإن لم يكن في
وعي الروائي، يتجلى من خلال تولي أرسلان حكاية قصة حاييم، في حين بدا صوته السردي
خافتا، ولم تمنح له إمكانية كتابة قصته وتاريخه".[26]
إن تقديم السارد لأناه على حاييم يعني أنه الشاهد، باعتباره
الجزائري النموذجي، العربي المسلم، وباعتبار اليهودي جزائريا هامشيا، ليس بحكم
تفعيل النسق الذمي في لا وعي السارد، أو في مضمرات خطابه، ولكن بحكم الواقع
التاريخي: فاليهودي حيثما كان هو مواطن هامشي باختياره، وبسبب وضع طائفته كأقلية.
إن
حاييم ليس تابعا في الرواية بقدر ما هو فاعل مستقل، فقد اختار الصيدلة بينما اختار
صديقه الفلسفة، واختار نشاطا تجاريا ربحيا بينما اختار صديقه مهنة التدريس، وقد
اختار البقاء في الجزائر رغم إكراهات المحيط ولا سيما حبيبته غولدا التي حاولت
إقناعه بالهجرة إلى إسرائيل فرفض اقتراحها مضحيا بحبه الوحيد. كما أنه لم يغادر
الجزائر بعد إحراق صيدليته من طرف المنظمة الخاصة، ولم يتزحزح عن موقفه الوطني
الراسخ بعد أن تعرض لمحاولة الانتقام منه غداة الاستقلال.
ونتساءل
بعد كل ذلك: ما هي القيمة المعرفية أو الجمالية أو الإيديولوجية أو حتى التاريخية
للحديث عن النسق الذمي في الرواية؟ إن كان ثمة مجال للحديث عن نسق مضمر فهو النسق
الاندماجي أي نسق الأنديجان "الساكن الأصلي" المقاوم لشرطه الاستعماري،
وهذا ما يتجلى في البرنامج السردي الأصلي للبطلين: إثبات ذاتهما في مجتمع استعماري
ينبذ سكان البلد الأصليين" الأنديجان"، قبل أن ينقلب البرنامج السردي
إلى نقيضه وهو الاندماج في المجتمع الأصلي الذي حقق وعيه بذاته من خلال الفعل
الثوري التحرري الذي ابتلع النسق الاندماجي من خلال احتواء التيار السياسي الذي كان
يطالب بالتجنيس (فرحات عباس).
أما ما أوردته الباحثة من شاهد على لسان والد
حاييم فنعقب عليه بأن العثمانيين لم يهمشوا اليهود وحدهم بل همشوا سكان الجزائر
العرب وانفردوا بالسلطة دونهم، وقد دفع ذلك بعض المؤرخين الجزائريين إلى اعتبار
الوجود العثماني وجودا استعماريا واستغلاليا[27]. وتأسيسا على
هذا الواقع التاريخي لا يمكننا اتهام الجزائري، وهو الذي لم يكن يملك السلطة
الفعلية في ظلال الدولة العثمانية، بتصنيف اليهود أهل ذمة.
ج
- التركيب:
- تقوم
كل من روايتي خضرا والسايح على نسق مضمر هو الاندماج المستحيل، وهو الاندماج الذي
يسعى أمين جعفري في رواية خضرا إلى تحقيقه عبر برنامج سردي أساسي تعضده برامج
استعمال رديفة، لكن اندماج أمين المتحقق في المجتمع الإسرائيلي سرعان ما يكشف عن
هشاشته بعد نقطة التحول المتمثلة في العملية التفجيرية التي نفذتها زوجته
الإسرائيلية، مثله، سهام. وهذا يقوده إلى برنامج سردي مضاد هو الاندماج في مجتمعه
الأصلي واستعادة جذوره.
أما أرسلان وحاييم بطلا
رواية السائح فيسعيان إلى تحقيق الاندماج في المجتمع الفرنسي لكسر نسق الأندجينا
المهمشة وإثبات تفوقهما ومضاهاتهما للآخر المستعمر، لكن برنامجهما المكتمل سرعان
ما يثبت هشاشته هو أيضا بعد أن يظهر الوعي الوطني المضاد لفكرة الاندماج ويتوج
بالخيار الثوري المسلح، فينحاز البطلان للبرنامج السردي المضاد وهو الاندماج في
المجتمع الأصلي.
- تحضر الشخصية اليهودية في المتن السردي
لياسمينة خضرا بوصفها شخصية نامية، فهي لا تتكشف إلا عبر مسار تحولي، ينقلها من النمط المؤنسن،
الوديع، المتحضر، الذي تمثله الحلقة الضيقة من أصدقاء أمين جعفري، كيم إيهودا،
ونافيد رونين، وعزرا بن حاييم، في الفضاء الإسرائيلي (تل أبيب) إلى نمط أداتي غير
عقلاني وغير إنساني تمثله الآلة الحربية القمعية الإسرائيلية في فضاء الداخل
الفلسطيني.
أما في رواية السائح فتبدو الشخصية اليهودية
مكتملة، منتمية إلى فضاءها الجزائري بكل محمولاته الثقافية والاجتماعية، فحاييم بن
ميمون، عبر سردية رتيبة تفتقر إلى توترات الحبكة، يبدو مندمجا في مجتمعه الجزائري
الأصلي منذ البداية، وقد عبر عن رفضه لخيار مزدوج كانت تدفعه إليه الظروف: الهجرة
إلى فرنسا بعد الثورة، أو الهجرة إلى دولة الكيان الصهيوني. وهو بذلك يمثل شخصية يهودية، غير نمطية، لكنها
لا تفتقر إلى نماذج شبيهة في الواقع التاريخي.
[1] غسان إسماعيل
عبدالخالق، تصاعُد شخصيّة اليهودي في الرواية العربيّة. لماذا ومتى وكيف؟!. مجلة
أفكار، وزارة الثقافة، عمان، الأردن، عدد 374 آذار 2020، ص7
[2] محمد سيد أحمد
متولي، صورة اليهود في الرواية العربية المعاصرة، رؤية سردية مغايرة، مجلة رسالة
المشرق. مج34، ع 63، 2019، ص72-73. والتأكيد على العبارة من عملنا.
[3] ينظر: عبد الله الغذامي، النقد
الثقافي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط3، 2005، ص 63-65.
[4] ياسمينة خضرا، الصدمة، ترجمة نهلة
بيضون، دار الفارابي، بيروت، 2007، وتبدو لنا ترجمة الاعتداء L’attentat بالصدمة ترجمة تفسيرية من نهلة
بيضون، إلا اننا نفضل العنوان الأصلي لدلالته على الفعل التفجيري المزدوج في
الرواية: التفجير "الاستشهادي" في المطعم، وتفجير موكب الشيخ مروان من
طرف الصهاينة.
[5]
Duchatel, A. (2006). Yasmina Khadra : comprendre l’incompréhensible. Entre
les lignes, 2(3), p15.
التأكيد
على العبارة من عملنا.
[6] الصدمة، ص80.
[7] الصدمة، ص 110.
[8] Garand,
D. (2008). Que peut la fiction ? Yasmina Khadra, le terrorisme et le conflit
israélo-palestinien. Études françaises, Volume 44, numéro 1, 2008, p 44.التأكيد على العبارة من عملنا
[9] نايلة ناصر،
ياسمينة خضرا وإسقاط الإرهاب الجزائري على الاستشهاد الفلسطيني، عن موقع جريدة
الاتحاد الإمارتية، 3 نوفمبر 2005، الرابط:
https://www.alittihad.ae/article/36203/2005
[10] Que
peut la fiction ? op cit, p49.
[11] تنظر رواية الصدمة، ص 207 وما
بعدها.
[12] المصدر نفسه، ص231. والتأكيد على
العبارة من عملنا.
[13] الصدمة، ص 280. والتأكيد على
العبارتين من عملنا.
[14] Garand,
D. Que peut la fiction ? op cit, p 49.
[15] الصدمة، ص 283.
[16] المصدر نفسه، ص 283-284. بإيجاز
يسير، والتأكيد على العبارات من عملنا.
[17] المصدر نفسه، ص 292-294. بإيجاز.
[18] الحبيب السائح، أنا وحاييم، دار
ميم للنشر، الجزائر، مسكلياني، تونس، ط1، 2018.
[19]حوار مع
الحبيب السائح، جريدة العرب، الأحد 28/06/2020، السنة 43 العدد 11745، ص11.
[20] آمنة بلعلى، زحام الأنساق في رواية “أنا وحاييم” للحبيب
السايح، مجلة الجسرة الثقافية، قطر، العدد 52 - خريف 2019، ص 114-121.
[21] المرجع نفسه، ص116.
[22] للتوسع حول حياة وأعمال مريم بن
ينظر، أمين الزاوي: الوطن قبل
الدين... حين يرفض الكتّاب اليهود مغادرة وطنهم
الأم الجزائر
أو المغرب، موقع أندبندنت عربية https://www.independentarabia.com/node/73311
وتنظر أيضا:
Beatriz Mangada
Cañas, Analyse de la contribution de trois voix littéraires à la dimension
féminine de la francophonie maghrébine, Çédille, revista de estudios franceses,
10 (2014), 207-220.
[23] آمنة بلعلى،
زحام الأنساق في رواية “أنا وحاييم”، سبق ذكره، ص117.
[24] المرجع والصفحة نفسهما.
[25] المرجع والصفحة نفسهما.
[26] المرجع والصفحة نفسهما.
[27] ينظر
للتوسع: أحمـد عبيد، " التّأريخ
الجزائري: تقييم ونقد - حالة الجزائر العثمانية " مجلة إنسانيات، الجزائر،
عدد 47-48، 2010، ص 57-75.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire